وزارة العميان / يوسف غيشان
تذكيرا بماض عتيد قبل سنوات خلال العمل على مشروع مطعم سرايا مادبا حيث حظينا بصديق رائع وفنان وموسيقي معتبر، وهو مبتلى بالعمى ويعيش في إحدى القرى المحيطة بمدينتي مادبا، وقد انطلق صديقي فارس بسيارته لإحضاره من البيت. وبعد أن ركب الفنان الكفيف السيارة، تبين لصديقي فارس أنه لا يعرف طريق العودة للشارع الرئيسي (المقصود فارس) الذي جاء منه، طبعا استعان بصديقنا الكفيف ليدله على الطريق.
وكان الكفيف يحفظ الطريق عن ظهر قلب ، وكان يقول له مثلا :
- انعطف يسارا وبعد عشرة أمتار خفف السرعة هناك سرقة صغيرة.
فعلا ينعطف صديقي ويجد أمامه مطبا صغيرا على الشارع فيتجاوزه بدون هدوء على عادة فارس.
ثم يقول الكفيف : - انطلق الى الأمام ، وبعد 350 مترا ستجد سرقة أكبر قليلا ، فخفف السرعة.
طبعا يجد فارس مطبّا متوسط الحجم، فيتجاوزه على عادته .
ثم يقول الكفيف : - الان خذ يمينك وستجد نفسك على الطريق الرئيسي ، لكن قبل بلوغها بأمتار ستجد سرقة كبرى.
انطلق فارس ، فوجد مطبّا كبيرا لا يمكن تجاوزه، دون وقوف السيارة بشكل كامل، ثم السير ببطء ، حتى لا تتضرر أجزاء السيارة بشكل مباشر وسريع.
وبعد أن استراح فارس من وعثاء الطريق (لا تسألوني عن معنى وعثاء) سأل صديقنا صاحب البصيرة عن معنى استبداله كلمة مطب بكلمة سرقة ، فقال له: - هذه ليست مطبات يا صديقي، ولا علاقة للبلدية ولا الأشغال بها، هذه مواسير مياه مسروقة من خط المياه الرئيسي ومحولة إلى المنازل والمزارع بدون عدادات. الصغيرة منها هي مجرد ماسورة نصف إنش تعطي بيتا واحد فقط. والوسطى ربما تكون ماسورة تقارب الإنش وتسرق الماء للبيت والحاكورة، أما السرقة الكبرى فقد تكون عدة إنشات وتسقي مزرعة كبيرة وما تعتقده «مطب» هو مجرد تغطية شكلية للماسورة لكن الجميع يعرف أنها سرقات.
لم أضحك عندما سمعت قصة صديقي، بل شعرت بالاكتئاب، لأنني تخيلت الوطن بكامله والسرقات تظهر أمام الجميع عينك عينك، لكن الجميع يعتبرها مطبات ويتعامل معها على انها مجرد مطبات.
بالمناسبة …. الفساد عندنا لا يحتاج الى دوائر وجهات وزارية وإدارية وأمنيّة وحقوقية وغيرها لتكشفه فالجميع يراه ..حتى الأعمى.