وإذا قلتم فاعدلوا
الكاتبة #إحسان_الفقيه
#العدل جزء أصيل من #رسالة #الإسلام التي عبر عنها ربعي بن عامر في قولته الشهيرة: “الله ابْتَعَثنا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضيق الدنيا إلى سعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ”.
كثير من العباد إلا من رحم الله، يطلق لسانه بالتجريح والتشهير والنقد الهدام والحكم على الآخرين بغير ميزان العدل والقسط.
وذلك #الظلم فاقم من #فساد العلاقات بينهم، ودب فيهم داء الاختلاف، ولذلك لا عجب أن ذهب شيخ الإسلام بن تيمية إلى أن الظلم – إضافة إلى الجهل – أبرز أسباب الفرقة والاختلاف، فقال مؤكدا على العدل في الغضب والرضا وسائر الأحوال: “الْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِنْ الشَّرِّ فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ”.
وعدّ رحمه الله الظلم من أسباب سقوط الدول ورفعتها، فيقول: “عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: “اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً”.
ولقد أفاض القرآن البيان في لزوم العدل قولا وفعلا مع الناس، بما يحقق الاستقرار والتواد في المجتمع الإسلامي، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، ونقل ابن كثير قولا بليغا لابْنَ مَسْعُودٍ حول هذه الآية، إذ قال: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ}.
وأمر الله تعالى بالقسط مع كل الناس دون اعتبار صفة القرابة والدم والنسب، فقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.
بل أمر بالعدل مع الخصوم، فقال {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يحملنكم بغض {قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه.
ومن أبرز مميزات المنهج الإسلامي فيما يتعلق بقيمة العدل، أنه ألزم به في التعامل مع غير المسلمين، فتراه يشهد لبعض اليهود على عدواتهم، بأداء الأمانة، فقال جل وعلا: “{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}.
لذلك امتلأت صفحات التاريخ الإسلامي بقصص عظيمة في العدل مع غير المسلمين، ومن أروع الأمثلة في العهد النبوي حول العدل مع غير المسلمين، ما جاء في صحيح البخاري أن نفرًا من الأنصار (انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: «الكُبْرَ الكُبْرَ» فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ» قَالُوا: لاَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ اليَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ).
ومعنى الكبر الكبر: أي قدموا في الكلام أكبركم، ومعنى (يبطل دمه) أي يتركه يذهب هدرا بدون دية.
فانظر إلى عظمة المنهج الإسلامي، فمع أنه قُتل في ديار خيبر، ورغم وضوح الأدلة بأن اليهود قتلوا الأنصاري، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقاعدة التي أرساها الإسلام في مثل هذه الحال “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”، فطالب الأنصار ببذل البينة والدليل على أن اليهود هم قاتلوه، وطالب اليهود بالحلف، وحتى تطيب نفس الأنصار دفع لهم دية قتله مائة من إبل الصدقة، دون أن يتخلى عن العدل مع اليهود.
لقد تفاقم واستشرى في الأمة ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بئس مطية الرجل زعموا)، فاعتمد فئات من الناس في الحكم على الآخرين على نقل الكلام بدون تثبت وبدون برهان، فيقولون قال الناس كذا وكذا، دون مراعاة منهج الإسلام في الحكم على الآخرين، وأن الدعاوى لا تثبت إلا بيقين وبرهان. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
===========