هَيكَلَة القطاع العام
إذا كان هُناك 380 ألف طلب توظيف في ديوان الخدمة المدنيّة، فإن ذلك يعني ببساطة أن هذا الرقم سَيَتضاعف إذا بقيت مُعدلات النُمُوّ في حَالتِها المُتباطئة التي لا تتجاوز في أفضل حالتها 2.3 بالمئة.
أرقام البطالة الرسميّة تبلغ 18.6 بالمئة، وهي الأعلى مُنذ عام 1989، وهي أيضا مُرشحة للنُمُوّ في حال لم تتغير أهداف السياسات الاقتصاديّة المُتفق عليها مع صندوق النقد الدوليّ ضمن برامج تصحيحيّة والتي أثبتت أنها بعيدة كُلّ البُعد عن النُمُوّ والتنميّة وَتُرَكّز فقط على الجباية الماليّة التي تتجه نحو جيوب المواطنين وإيرادات القطاع الخاص.
في الأردن هُناك قطاع عام فيه ما يقارب النصف مليون عامل في الجهازين العسكريّ والمدنيّ، وما يَهُمنا هو الجهاز المدنيّ الذي يبلغ عدده 210 الاف شخص تقريبا بِمختلف المستويات تتجاوز رواتبهم السنويةّ 1.6 مليار دينار، تستحوذ لِوحدها على أكثر من 15 بالمئة من الموازنة العامة.
القطاع العام اليوم يُشكّل عبئا حقيقيّا على أيّة عملية إصلاحيّة، ورغم كُلّ مُحاولات الإصلاح التي اتبعتها كافة الحكومات في هذا المجال، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال والمحصلة هو تراجع الأداء في القطاع العام على كافة المستويات، مما دفع الحكومات إلى تقليل عمليات التعيينات قدر الإمكان، لِتقليل إعداده التي تتجاوز بكثير احتياجاته مع إجراءات تمنع من بلغ سن التقاعد من الاستمرار في عملهِ، ومع ذلك بقيت التعيينات تتسلل إلى القطاع العام تحت غطاء المحسوبيّة والوساطات التي باتت اكبر تحدي يُحيط بإصلاح القطاع العام.
هل الحُكومة اليوم قادرة على مُعالجة الاختلالات في القطاع العام ووقف حقيقيّ للتعيينات وتقليل أعداده وبالتالي تقليل رواتبهم السنويّة وتوفيرها لِمُحاولات تنمويّة أخرى؟
بداية هناك مُشكلة مُلحة وسريعة تواجه راسم السياسة الاقتصاديّة، فالبطالة في أعلى مُعدّلاتها السنويّة، واعداد الخريجين يتجاور 156 ألف خريج في العام الواحد ما بين خريج جامعات وكليات ومعاهد مهنيّة وتوجيهي لا يكمل دراسته، والاقتصاد لا يستطيع في أفضل حالته أن يوظف 56 الف فرصة يتقاسمها القطاعان العام والخاص، وغالبية الحركات الاحتجاجيّة في المجتمع أساسها التشغيل والبطالة التي تنتشر في صفوف الشباب خاصة في المحافظات بدرجات نسبيّة أكبر بصورة واضحة، فكيف للحكومة أن تسير في أهداف برنامج إصلاح القطاع العام في ضوء التحديات الملحة السابقة ؟.
المسألة في غاية الصعوبة لكنها ليست بالمستحيلة إذا ما تضافرت كافة الجهود الرسميّة في مُعالجة الوضع بعد أن تكون فهمت حجم التحدي الحقيقيّ ونسقت جهودها وموردها لمعالجة اختلالات القطاع العام.
البرنامج يحتاج أولا تعهدا من كافة مؤسسات الدولة ولا نستثني منها أحدا، فالحكومة والنوّاب وكافة الأطراف معنية بتنفيذ بنوده التي ستكون عابرة للحكومات والمجالس النيابيّة، فالبرنامج يرتكز على ضرورة، أولا بإيقاف كامل للتعيينات، وعدم قبولها لفترة زمنية معينة.
هذا الإيقاف سيكون مصحوبا بتوفير مخصصات ماليّة جديدة تتوفر تلقائيا من عدم التعيين من جهة، وهدم التمديد من جهة أخرى لمن بلغوا سن الستين، ويتزامن مع الاستغناء عن كافة العاملين الذين ليس لهم حاجة فعليّة في منحهم نصف راتب حتى يتدبروا أمرهم.
الأموال المتوفرة من العملية الهيكليّة السابقة تُصرف على برنامج تشغيليّ مع القطاع الخاص، يُساهم بتمويل جزء كبير من متطلباته خاصة فيما يتعلق بالرواتب والضمان، ويكون مُخصصا للخريجين الجدد أولا بأول، وكل ميزانيته من الأموال المتوفرة من خطة إعادة الهيكلة للقطاع العام.
هذه الخطة مؤلمة في البدايات الأولى لتنفيذها، لكنها مُخرج حقيقيّ من أزمة القطاع العام والعاملين به، فلا يُمكن أن يستمر هذا الوضع على ما هو عليه دون علاجات ناجعة وقرارات حاسمة.