هم واهمون / د. هاشم غرايبه

هم واهمون

كنت استمع الى إحدى المحطات الإذاعية الأردنية، ويبدو أن لديها جميعا (توجيهات) بإشاعة أجواء التفاؤل بحسن إدارة الدولة للأمور، وسط أوضاع اقتصادية خانقة، جراء زيادة الضرائب والرسوم بتحميل المواطنين كلف الفشل والفساد وسوء الإدارة، كان المذيع يتحدث في المقولات المكررة مثل نعمة الأمن والأمان..وما الى ذلك من ادعاءات إنشائية فارغة من المضمون، وكأن ذلك منّة من الدولة وتفضلا، وليس من صميم واجباتها.
في أثناء ذلك اتصل مواطن من سكان عمّان يتحدث بصوت مخنوق، ويشكو الى الله ما قامت به أجهزة أمانة العاصمة بحماية قوة أمنية، من مصادرة العربة اليدوية التي يعيش على ما يبيعه منها، ولحق بهم ليرجوهم إعادتها، لكنهم بدلا من ذلك قاموا بتحطيمها أمام عينيه، عندما وصل في حديثه الى هذه النقطة أجهش بالبكاء، وكأنه فقد أعز أولاده.
هزتني من الأعماق شكواه، وتداعت مشاعر النقمة في خاطري، فرأيت هذا الرجل الخمسيني واحدا من المليوني أردني العاطلين عن العمل، انتظر وعودا كاذبة من حكومات متتالية جثمت على صدر هذا البلد، كل واحدة لعنت أختها، وقالت أنها أفضل، إحداها دعت الناس للصبر بضع سنين بعدها ستنجلي الغمة، والثانية رفعت الأسعار على كل شيء وقالت أنها بذلك ستخرج الأردن من عنق الزجاجة، وجاءت الأخيرة بقانون ضاعف الضرائب قائلة أنها ستنهض بالأردن، لكنه لم ينهض بل غاص في مستنقع البنك الدولي أكثر فأكثر.
منذ عام 94 وعدته الدولة بالسمن والعسل إن قَبِل بتوقيع معاهدة العار مع العدو، صبر خمسة وعشرين عاماً فلم ير من ذلك شيئا، بل ساءت أحواله أكثر، لكن أولاده الجياع لا يصبرون، فلم يجد بُدّا من العمل على عربة ليطعم أولاده، وتكفل جيرانه بتسديد ثمنها.
لكن الذين يعيشون في بروج عاجية لايرون الجياع، ولا يحبون أن يلوث الفقراء ذوي المظهر الرث (عمّانهم) التي أرخت جدائلها فوق الكتفين، لا لتحنو على ابنائها البائسين، بل ليعبث بها رواد الملاهي الليلية وطلاب المجون، فهم يصدرون التراخيص لمن يدفع، وأما الذين لايقدرون على الدفع مثل الباعة المتجولين وأصحاب الأكشاك والبسطات، فهؤلاء يطاردونهم ويصادرون بضاعتهم ويحطمون سبل عيشهم.
هكذا هو النظام الرأسمالي الذي تربوا في أحضانه، قانونه وضعته أسماك القرش وينص على أن البقاء للأقوى، والسمك الكبير يأكل الصغير، لذلك لا مكان فيه للفقراء.
من أجل ذلك أنزل الله الدين ليحمي الضعفاء، فالإسلام يرى ان المجتمع لا يكون إنسانيا إلا إن كان متكافلا متضامنا، وإلا فهو قطعان من الوحوش، ومغرق في البدائية والتخلف ولو كان يمتلك كل وسائل التقدم والعلم،
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه”.
وتحملت الدولة الراشدية المسؤولية عن تأمين حاجات المواطنين سواء كانوا مسلمين أم غيرهم، فهذا عمر بن الخطاب، يجوب الطرقات، ويتفقد أحوال الناس بنفسه، وعندما رأى يهوديا كهلا يتسول يغضب ، فيأمر له براتب يكفيه حاجته.
وشخّص علي بن أبي طالب أسباب الفقر بحكمة حين قال: ” ما شبع غني إلا بما جاع به فقير”.
اما إمام الفقراء أبوذر الغفاري فيحرض الناس على المطالبة بحقوقهم: “عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهراً سيفه”، لأن الدولة تتحمّل مسؤولية تأمين فرص العمل لمواطنيها لكي يكسبوا أرزاقهم التي قسمها الله لهم.
المذيع الذي كان يطنب في الحديث عن مآثر النظام السياسي، تأثر أيضا مثلي ومثل كل من استمع، توقف عن المديح فجأة كأنما أحس بخطيئته، وبالفارق الهائل بين ما يسوّقه عن اهتمام الدولة بالناس وبين الواقع الأليم، لكنه موظف يخشى من قطع رزقه أيضا إن تحدث بالحقيقة، فلم يزد على أن قال: لاحول ولا قوة الا بالله..لماذا يتمادون في الضغط على المواطن؟..هل يريدون أن يلجئوه الى ما لاتحمد عقباه؟.
وأنا أكمل ما لا يمكنه قوله: نعم يريدون ذلك، من هم؟..إنهم الذين يشير لهم الأردنيون بالضمير المستتر تقديره: (هم)، وهم قطعا ليست تلك البيادق التي تسمى (وزراء)، فهؤلاء تنفيذيون.
إنهم (هم) وراء تبني سياسة الإفقار والتجويع، لتمرير صفقة القرن، والتي تهدف الى منع الحتمية القادمة بإذن الله، وهي أن الأردن سيكون أرض الحشد والرباط ومنطلق التحرير.
لكنهم واهمون..فشعار الأردني: الموت ولا الدنية!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى