ما بعد التاريخ مقاربة مقدسية / خيري منصور

ما بعد التاريخ مقاربة مقدسية
خيري منصور

لم يندرج مصطلح ما بعد التاريخ في خانة المابعديات، على غرار ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار وما بعد الدولة، وأخيرا ما بعد الإنسان، لكنه أصبح متداولا على نحو افتراضي بعد أطروحة فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، وإذا كانت عصور ما قبل التاريخ لم تكن متجانسة، فإن ما قد يأتي بعد التاريخ سيكون على وتيرة واحدة، لأن ما سوف يتبقى هو التاريخ العضوي للأحياء والتاريخ الطبيعي للأشياء والعناصر.
والسؤال الآن قد يكون استباقيا، أو من قبيل التخيل عن المصير البشري في مرحلة تعقب التاريخ، سواء كانت افتراضية، بعد حرب نووية شاملة وساحقة تنهي الحياة على هذا الكوكب، أو التوغل في التوحش وانهيار كل منظومات القيم، والعودة إلى الكهف والغاب، لكن ما علاقة هذه التداعيات بأحداث سياسية ساخنة، تشغل العالم هذه الأيام، ومنها احتفال يشبه حفلة تنكرية خارج جاذبية الأرض ومدار التاريخ، كالاحتفال الذي شهده العالم أثناء نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس.
أعترف، درءا لأي التباس، بأنني قررت منذ اللحظة الأولى لهذا المشهد أن تكون مقاربتي فوق سياسية، وما بعد تاريخية أيضا، لأن الفعل بحدّ ذاته مضاد لمجرى التاريخ وسيرورته، ومحاولة إطلاق اسم على جنين في حمل كاذب تحت فجر كاذب وفي تضاريس كاذبة، لأن الخرائط الورقية لا ينبت فيها العشب، والأزهار المرسومة لا تخدع النحل.
إن احتفالا تسربت أصداء العواء المبلل باللعاب الذئبي من نشيده، ليس من إفراز تاريخ، بقدر ما هو من إفراز خرافة، وفي هذه النقطة بالذات تنكشف المسألة كلها، فمن كانت وستبقى مرجعيتهم أسطورية هم على الشاطئ الآخر من التاريخ، لأن المستقبل بالنسبة إليهم هو الماضي المقبل والمعاد إنتاجه في كل فترة، تبعا لمنسوب القوة، والخلل الأخلاقي الذي يدفع إمبراطورية منزوعة العدالة إلى الانحياز لكل ما هو مدمر، وينذر بهلاك البشرية، بحيث تتحقق نبوءة ديستويفسكي عن زمن يصبح فيه كل شيء مُتاحا بلا حدود، ومباحا بلا شروط، ما دامت الروادع كلها غائبة.
وإذا كانت الطبيعة قد دافعت عن توازنها إلى حد ما فانقرضت ديناصورات، وأوشكت الضواري أيضا على الانقراض، بعــــد أن أصبحت سجيــــنة في حدائق الحيوان، بينما تمــــلأ الفراشات والعصافير السماء، فإن للتاريخ أيضا فيزياءه ودفاعه عن منطقه، لكنه أحيانا يصاب بنوبة من المكر والخداع كما يقول هيغل، وتصبح الأشياء والكائنات كلها سوداء، بعد أن يعم الظلام، لكن هذه النوبة ليست أبدية، وربما كانت أشبه بجملة معترضة في كتاب التاريخ.
القادمون من الأسطورة يحاولون بكل ما توفر لديهم من قوة أن يلووا عنق التاريخ كي يصبح داجنا في إسطبلاتهم ومستوطناتهم، وهم بالضرورة ذاهبون إلى مستقبل لن يقبل على الإطلاق، لأنه طبعة أخرى من الماضي الذي أسقطه النسيان من كل الذاكرات، لهذا عبثا يحاول الطارئ على هذا الكوكب تلفيق متحف أو سردية وطنية، اللهم إلا إذا استنسخ ما لدى الآخرين ونسبه إليه.
وإذا كان السطو المدجج نوويا على القدس هو مناسبة لهذه المقاربة، فإن مبتدأ الجملة محذوف الخبر، وهو ما نسميه في بلاغتنا شبه الجملة، واستيلاد الأشباه، سواء كان لدول أو لمفاهيم في أنبوب الخرافة، هو ضرب من خداع الذات، وما سماه شلومو ساند أحد أبرز المؤرخين اليهود الجدد، اختراع الشعب اليهودي، يطرح سؤالا تتطلب الإجابة عليه نبش مقابر واستقراء تواقيع وإصغاء للغة التي يحف بها الشجر، فلكل حجر زاوية، ولكل جذع زيتونة سردية خضراء استعصت على الخريف، وبإمكان السارق أن يزعم أن ما سرقه ورثه عن أجداده، لكن تاريخ المسروق سيبقى محصنا في ذاكرة صاحبه، فالتاريخ لا يقبل الإعارة أو الشراء، لهذا هناك طارئون على هذا الكوكب يكرهون المتاحف، ويتمنون تدمير الأطلال لكي يبدأ التاريخ هذا الصباح.
وهناك لحظات تبدو لدى القراءة الأولى فارقة وحاسمة وتشطر التاريخ إلى ما قبل وما بعد، لكنها في الحقيقة أشبه بقفزة كوميدية في الفراغ، والقدس مشتقة من أبجدية هويتها، وما من حصاة فيها أو زقاق يقبلان الترجمة، وبقدر ما أصابتنا الحفلة الترامبوية التنكرية بالقشعريرة، تقززا وليس فزعا، سرعان ما تحولت إلى لقاح جديد يضاعف من المناعة، لأن كل ما لم يقتلنا يقوينا وتلك جدلية عصية على فهم البراغماتي الذي سال لعابه الذئبي على كل ما لا يملك.
ورهان أسخريوطي الألفية الثالثة هو على أن التاريخ قد مات وبدأنا منذ تلك الظهيرة المقدسية السوداء نعيش ما بعده.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى