هل يستعيد الأردن الباقورة والغمر من «إسرائيل» العام القادم؟

سواليف

«في سبيل استرداد الحقوق الأردنية الثابتة في الأرض والمياه والسيادة التامة عليهما، وحمايةً لهذا الوطن من التآمر والتهديد، وتثبيتًا لحدود المملكة الأردنية الهاشمية بشكل معترف به دوليًا، قررت الحكومة الدخول في عملية التفاوض مع دولة إسرائيل». هكذا أوردت الحكومة لمجلس النواب الأسباب الموجبة للتصديق على «معاهدة السلام» بين الأردن و«إسرائيل».

نشهد هذا الأسبوع ذكرى مرور ثلاثة وعشرين عامًا على توقيع معاهدة وادي عربة التي صادق مجلس النواب عليها دون الاطلاع على ملاحقها الخمسة والذيول والخرائط المرفقة بها. كانت «قضية الحدود»على رأس القضايا الشائكة في المفاوضات. ادّعت الحكومة أثناء مناقشة المعاهدة أمام مجلس النواب «أن الأردن قد استعاد بموجب نصوص المعاهدة وملحقاتها وخرائطها كامل المساحة التي احتلتها إسرائيل دون التنازل عن شبر واحد».

لكن ثلاث مناطق تمتد على طول الحدود ما تزال إمّا محتلة بشكل رسمي، أو تحظى «إسرائيل» فيها بـ«حقوق» خاصة تُفرغ السيادة الأردنية عليها من معناها. هذه المناطق الثلاث هي الباقورة في الأغوار الشمالية، والغمر في وادي عربة جنوبًا، والعقبة.

ظلّت ذكرى المعاهدة على مدى السنوات مدخلًا لإعادة تأكيد رفضها شعبيًا وخطورتها على مستويات عدة، إلّا أن الذكرى هذه السنة تطرح أسئلة إضافية وحاسمة. فبحسب المعاهدة، وضع الأردن منطقتي الباقورة والغمر تحت «نظام خاص» أقرب ما يكون إلى «تأجير» هاتين المنطقتين لـ«إسرائيل» لمدة 25 عامًا، ويحق لأي من الطرفين قبل انتهاء المدة بعام إبلاغ الطرف الآخر رغبته إنهاء الاتفاق حولها. مما يعني أن الأردن يستطيع بحسب الاتفاقية إبلاغ «إسرائيل» خلال عام من الآن عدم نيته تجديد عقود هاتين المنطقتين واستعادة السيطرة عليهما بالكامل.

ورغم أن الصراع مع «إسرائيل» ليس «خلافًا حدوديًا» بين دولتين «جارتين»، بل صراعًا وجوديًا شاملًا مع دولة الاحتلال بوصفها كيانًا استعماريًا توسعيًا، إلّا أن الدخول في تفاصيل المعاهدة مهم لكشف التناقضات التي ساقتها الحكومة الأردنية في تبريرها «للسلام» مع «إسرائيل»، ومهم كذلك لتفعيل حق الأردنيين في معرفة الكيفية التي تم التفاوض فيها على أرضهم، ولتفعيل حقهم في المحاسبة، دون أن يعني ذلك بأي حالٍ من الأحوال أن الصراع مع «إسرائيل» يقتصر على هذا الجانب، أو أن المحاسبة محصورة في الجانب التقني من المعاهدة التي كانت وما تزال مرفوضة شعبيًا.

فهل استعاد الأردن حقًا كامل المساحة التي احتلتها اسرائيل؟ وكيف استعادها؟ وما هو السياق التاريخي لاحتلالها من قبل «إسرائيل»؟ وهل سيسترد الأردن كامل سيادته على الباقورة والغمر اللتين ما تزالان مفتوحتين أمام «الإسرائيليين»؟ تحاول هذه المقالة الإجابة على هذه الأسئلة بتناول قضية الحدود والأراضي بين الأردن و«إسرائيل» في المناطق الثلاث.

الباقورة: كيف احتلت ولماذا أدرجت تحت نظام خاص في المعاهدة؟

تنص المعاهدة في الملحق 1 (ب) على تطبيق نظام خاص على منطقة الباقورة في الأغوار الشمالية تعترف «إسرائيل» من خلاله بالسيادة الأردنية على هذه المنطقة، إلا أن ذلك متبوع بعبارة تقول أن المنطقة «فيها حقوق ملكية أراضٍ خاصة ومصالح مملوكة إسرائيلية (المتصرفون بالأرض)»، وبالتالي يتعهد الأردن وفقًا للمعاهدة بأن «يمنح، دون استيفاء رسوم، حرية غير مقيدة للمتصرفين بالأرض وضيوفهم أو مستخدميهم، بالدخول إليها والخروج منها واستعمالها» و«ألا يطبق [الأردن] تشريعاته الجمركية أو المتعلقة بالهجرة على المتصرفين بالأرض أو ضيوفهم أو مستخدميهم الذين يعبرون من إسرائيل إلى المنطقة بهدف الوصول إلى الأرض لغرض الزراعة أو السياحة أو أي غرض آخر يتفق عليه»، و«أن يتخذ [الأردن] كافة الإجراءات الضرورية لحماية أي شخص يدخل المنطقة حسب هذا الملحق والحيلولة دون مضايقته أو إيذائه». بالإضافة إلى هذا، يسمح الأردن «بدخول رجال الشرطة الإسرائيلية بلباسهم الرسمي، بالحد الأدنى من الشكليات، إلى المنطقة لغرض التحقيق في الجرائم أو معالجة الحوادث الأخرى المتعلقة حصرًا بالمتصرفين بالأرض أو ضيوفهم أو مستخدميهم».

يؤكد الباحث خالد حباشنة في كتابه «العلاقات الأردنية-الإسرائيلية في ظل معاهدة السلام»1 أن هذا الوضع القائم يُفرِغ مفهوم السيادة من محتواه، كون السيادة من وجهة النظر الدولية تشمل «سيطرة الدولة على أراضيها وسكانها وثرواتها الخارجية والباطنية». لكن السؤال هو كيف أصبحت هذه الأراضي «أراضٍ خاصة إسرائيلية»ولماذا اعترف الأردن بـ«ملكيتهم لها»؟

روتنبرغ ومشروع كهرباء فلسطين

في 5 آذار عام 1926 منحت سلطات الانتداب البريطاني شركة الكهرباء الفلسطينية المملوكة لبنحاس روتنبرغ2، أحد قادة الحركة الصهيونية، حق امتياز توليد الطاقة الكهربائية عن طريق استخدام مياه نهري الأردن واليرموك لتوليد وتوريد وتوزيع القوة الكهربائية في فلسطين وشرق الأردن3. وفي عهد حكومة حسن خالد أبو الهدى الثانية، أقرّ المجلس التنفيذي لشرق الأردن (الحكومة) في 8 كانون الثاني 1928 هذا الامتياز ومدته سبعون عامًا، والذي يصفه الباحثان سليمان الموسى ومنيب الماضي في كتابهما «تاريخ الأردن في القرن العشرين» بأنه «من أخطر الامتيازات التي منحت باسم شرق الأردن»4.

يعد هذا المشروع أحد السبل التي استخدمتها الحركة الصهيونية من أجل استقطاب يهود العالم وتهجيرهم إلى فلسطين، حيث هدفت الحركة الصهيونية من خلاله إلى «تنمية» أراضي فلسطين و«تطويرها» وجعلها أكثر ملاءمة واستقطابًا ليهود العالم5. وفي حزيران من العام نفسه، أقر المجلس التنفيذي بيع ستة آلاف دونم لشركة روتنبرغ في الأراضي المجاورة لمركز المشروع بقيمة ثلاث جنيهات للدونم الواحد، ووافق المجلس على طلب الشركة بإنشاء قرية في الأراضي الواقعة عند ملتقى نهري الأردن واليرموك بالقرب من جسر المجامع6.


تقول الباحثة ماري ويلسن في كتابها «عبدالله وشرق الأردن»إن «روتنبرغ اكتشف أن شركته لم تكن بحاجة إلى ستة آلاف دونم فحاول الترتيب لبيع الأرض إلى مستوطنين يهود»7. وهو ما يتفق معه الباحث خالد الحباشنة، والذي يقول أن روتنبرغ باع هذه الأراضي للوكالة اليهودية. لكن الحباشنة، في الوقت نفسه، يؤكد أن عقد البيع، المحفوظ في دائرة الأراضي والمساحة بمدينة إربد، يشترط على روتنبرغ ألا يتم التنازل عن هذه الأراضي لأي جهة كانت، وأن يأخذ حاجة المشروع منها ويعيد الباقي للحكومة الأردنية بعد أن يسترد ثمن الأرض المعادة، وفي حال انتقال ملكية هذه الأراضي من روتنبرغ لأي جهة كانت، تعود ملكية هذه الأرض حكمًا للحكومة الأردنية.

واجه مشروع روتنبرغ معارضة شديدة في شرق الأردن على المستوى الشعبي باعتباره مقدمة للهجرة الصهيونية، إذ قاطع العديد من الأهالي الكهرباء المقرر إيصالها إلى مدن شرق الأردن عن طريق شراء واستخدام مولدات خاصة، وشهدت مدينة إربد في نيسان 1927 موجة احتجاجات شعبية ضد المشروع، وأعرب الأهالي عن استعدادهم لجمع ثمن الأرض وتقديمها للحكومة8. وتظهر محاضر جلسات المجلس التشريعي الأول معارضة شديدة للمشروع الذي اعتبره النائب شمس الدين سامي «مشروعًا صهيونيًا محضًا لم تكن الحكومة مجبورة على إدخاله للبلاد»9 على حد قوله، متسائلًا عن كيفية بيع ستة آلاف دونم لمشروع لا يحتاج أكثر من 75 دونمًا واتهم عددًا من أعضاء الحكومة بقبض رشوة من الشركة10.

ويذكر الموسى والماضي كيف حوّل جيش الاحتلال الإسرائيلي المشروع إلى قلعة للقتال في حرب عام 1948. وتوقف المشروع عن العمل بعد أن قصفه الجيش العراقي في الحرب نفسها.

احتلال الباقورة

عام 1950، قام الجيش الإسرائيلي بالتوسع باتجاه الأردن والاستيلاء على أراضٍ في منطقة الباقورة في شمال المملكة من خلال عبور نهر الأردن وفرض أمر واقع جديد. وتبلغ مساحة هذه الأراضي 1390 دونمًا بحسب ما نقل ناهض حتّر عن أطلس المركز الجغرافي الأردني11 الصادر عام 1983.

ناقش مجلس النواب الأردني الثاني قضية احتلال الباقورة، إذ تتضمن محاضر جلسات الدورة العادية الأولى للمجلس كلمة وزير الدفاع، في حينه، فوزي الملقي، الذي أكد على التالي: «أنه بتاريخ 28/08/1950 علمت رئاسة أركان حرب الجيش من قائد منطقة عجلون أن اليهود قد دخلوا المنطقة الأردنية المؤشر عليها في الخارطة المرفقة، وهي تقع في الجهة الشمالية الغربية من سد مشروع روتنبرغ (..) وهذه الأرض أرض أردنية صميمة بموجب الحدود الرسمية والاتفاقيات الدولية». ويضيف وزير الدفاع في الكلمة نفسها أنه تم استدعاء «قائد الفرقة لاش باشا الى عمان، وأبلغتُه عزم الحكومة على دفع الاعتداء اليهودي بالقوة».

أبلغت الحكومة البريطانية الأردن حينها بأنها «ترى أن الطريق الوحيد لتسوية الحادث هو المفاوضات وليس استعمال القوة»، وعبرت الحكومة الأمريكية عن رغبتها بأن «يُحل الحادث بوساطة جهاز ووسائل هيئة الأمم». في نهاية المطاف اكتفى الأردن بتقديم شكوى لمجلس الأمن، وتبين محاضر اجتماع المجلس التشريعي امتعاض بعض النواب من اكتفاء الحكومة بالشكوى ومن ردة فعل مندوب بريطانيا في مجلس الأمن الذي صرّح قائلًا بأن «قطعة الأرض المتنازع عليها بين المملكة الهاشمية واليهود لا تستحق العرض أمام مجلس الأمن، ويجب أن لا يشغل مجلس الأمن الموقر نفسه في موضوع تافه كهذا»، كما يقول النائب سعيد بك العزة12.

الباقورة في المفاوضات

من أصل 1390 دونمًا تم احتلالها عام 1950، زعمت «إسرائيل»أثناء مفاوضات «وادي عربة» بأن هناك 830 دونمًا هي «أملاك إسرائيلية خاصة». رضخ المفاوض الأردنيّ للحجج الإسرائيلية، ولم يتمسك باستردادها بالكامل. واتفق «الطرفان» على صيغة أشبه بالإيجار. يذكر منذر حدادين عضو الوفد الأردني المفاوض كيف أقنع رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إسحق رابين الملك حسين بتأجير هذه الأراضي لـ«إسرائيل». عرض رابين فكرة الإيجار على الملك حسين قائلًا: «جلالتك، لم لا تؤجرنا الأرض لبعض الوقت؟». فردّ الملك: «فكرة الإيجار ليست مطروحة على الطاولة. لكن إلى متى تريدون البقاء فيها؟». أجاب رابين: «فنلقل 25 عامًا، تجدد برضا الطرفين». فرد الملك «يبدو ذلك معقولًا»13.

اكتفى الأردن باعتراف «إسرائيل» بسيادة الأردن عليها واتفق «الطرفان»على تطبيق نظام خاص على هذه المساحة من منطقة الباقورة يضمن «حقوق ملكية أراض خاصة ومصالح مملوكة إسرائيلية» ويبقى هذا الوضع -وفقًا للملحق 1(ب) في الاتفاقية- «نافذ المفعول لمدة خمس وعشرين سنة، ويجدد تلقائيا لفترات مماثلة ما لم يُخطِر أحد الطرفين الطرف الآخر بنيته بإنهاء العمل بهذا الملحق قبل سنة من انتهائه وفي هذه الحالة يدخل الطرفان في مشاورات حيالها بناء على طلب أي منهما».

بالتالي، إذا أراد الأردن إنهاء هذا الوضع القائم واستعادة سيادته على هذه الأراضي بالكامل، فعليه أن يبلغ دولة الاحتلال بهذا خلال الأشهر القليلة القادمة، دون أن يخرج ذلك عن الإطار «القانوني» للمعاهدة نفسها التي كثيرًا ما تذرّعت بها الحكومة الأردنية بوصفها «قيدًا» يمنعها من اتخاذ أي تصرف ضد «إسرائيل».

التوسع الإسرائيلي يمتد بعد 1967 إلى وادي عربة

بعد حرب عام 1967 احتلت إسرائيل مساحات واسعة من الأراضي الأردنية في وادي عربة جنوب البحر الميت. بحسب حتّر، يشير أطلس المركز الجغرافي الأردني عام 1983 إلى أن «إسرائيل [قامت] بعد عام 67 بتغيير خط الهدنة في وادي عربة، وزحزحت هذا الخط شرقًا لمساحات مختلفة، وصلت في بعض المناطق 8 كلم، بطول 128 كلم، أما المساحات التي استولت عليها إسرائيل فقد بلغت 387.4 كيلومتر مربع».

احتلت «إسرائيل» هذه الأراضي في وادي عربة تحت شعار التصدي لعمليات المقاومة الفلسطينية التي كانت تستهدف مستوطنات وادي عربة «الإسرائيلية» آنذاك، و«نقل خط الأمن شرقًا» كما يؤكد إلياكيم روبنشتاين رئيس الوفد «الإسرائيلي» في مفاوضات وادي عربة في مقال بعنوان «حول الحدود، حدود إسرائيل مع الأردن».

يقول حاييم لفيطا، أحد مؤسسي مستوطنة حيتسفا الملاصقة للحدود الأردنية، في مقال منشور باللغة العبرية بعنوان «تبادل الأراضي في وادي عربة» أن «إسرائيل» قررت بعد عام 1967 التغيير الفعلي للحدود عن طريق فرض جدار أمني عسكري، وشقت طرقات للدوريات تمتد إلى بضعة كيلومترات شرق خط وقف إطلاق النار داخل الحدود الأردنية. وكان الهدف من «توسيع الحدود» هو إبعاد الفدائيين عن مستوطنات وادي عربة وخلق مساحة مكانية وزمنية كافية للتصدي لهذه العمليات.

بعد مدة من احتلال «إسرائيل» هذه الأراضي بدأ المستوطنون بالتوسع بمزارعهم داخل الحدود الأردنية، حيث استولوا على مساحات واسعة من الأراضي الأردنية الملاصقة للحدود في وادي عربة، واستخدموا الأرض وزرعوها وسرقوا مياهها، وحفرت «إسرائيل» آبارًا داخل الأراضي الأردنية لتزويد مزارع المستوطنين الواقعة على جانبي الحدود بالمياه.

يؤكد مناحيم مرقص -الباحث الصهيوني المتخصص بالجغرافيا وأحد مؤسسي مدرسة ما يسمى بـ«مدارس الحقل»الداعمة للمستوطنات الزراعية- في مقال بعنوان «قضية تبادل الأراضي في وادي عربة في اتفاقية السلام مع الأردن» أن مزارعي مستوطنات وادي عربة الوسطى، على أثر الاستيعاب المكثف للمستوطنين، حصلوا على «تصاريح استثنائية» تسمح لهم بزراعة أراضي داخل الحدود الأردنية. وقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة داخل الأردن ما يقارب 5000 دونم والتي تشكل 50% من مجمل المساحة المزروعة في مستوطنات وادي عربة الوسطى.

«محراث المستوطنين» يرسّم الحدود مع الأردن

مع بدء المفاوضات، شعر المستوطنون الزراعيون بالقلق من احتمال خسارة الأراضي المزروعة داخل الحدود الأردنية، وبدأ قادتهم بالضغط على المفاوضين «الإسرائيليين» من أجل التمسك بهذه الأراضي وعدم إرجاعها للأردن14. وتصدّر «شاي بن الياهو»، رئيس السلطة الإقليمية في وادي عربة، مشهد الدفاع عن هذه الأراضي وعدم التفريط بها بأي شكل كان، باعتبارها «ضرورة مصيرية» لمزارعي مستوطنات وادي عربة كما يقول حاييم لفيطا.

تنص المادة الثالثة من «اتفاقية وادي عربة» على أن «تحدد الحدود الدولية بين الأردن وإسرائيل على أساس تعريف الحدود زمن الانتداب». وقد حددها الانتداب البريطاني عام 1922 كما يلي: «تبدأ من خط ممتد من قطعة واقعة على خليج العقبة على بعد ميلين إلى الغرب من بلدة العقبة، وتمر بمنتصف وادي عربة والبحر الميت ونهر الأردن، حتى النقطة التي يلتقي فيها هذا النهر بنهر اليرموك، ومن منتصف هذا النهر حتى الحدود السورية»15. إلا أن «إسرائيل» تذرعت في المفاوضات بأن ترسيم الانتداب اللفظي للحدود مع الأردن في وادي عربة تحديدًا غير واضح. ويقول رئيس الوفد «الإسرائيلي» المفاوض «أن عبارات مثل «منتصف البحر الميت» و«منتصف نهر الأردن» و«منتصف نهر اليرموك»هذه مقاييس واضحة ومقبولة دوليًا، لكن ما المقصود بمنتصف وادي عربة؟». فتساءل الإسرائيليون هل يقصد بكلمة (the center) المنتصف أو المركز أو الوسط، وهل يقصد بالوادي مجرى الماء أم المرج. وعلى إثر هذا الخلاف اقترح الأردن أن ترسم الحدود في وادي عربة وفقًا لخط هدنة عام 1949 الذي وقع الطرفان عليه بتوسط الأمم المتحدة في اتفاقية رودس في 3 نيسان عام 1949.

أثناء المفاوضات طرحت «إسرائيل» موضوع تبادل الأراضي حرصًا على «مصلحة المزارعين الإسرائيليين» لأن ترسيم الحدود على أساس خط هدنة عام 1949 يعني استعادة الأردن هذه الأراضي وخسارة المستوطنين لها. لهذا اتفق الزعيمان كما يقول آفي شلايم في كتابه «أسد الأردن» على: «إجراء بعض التعديلات الطفيفة على الحدود في وادي عربة، وتبادل أراضي بالمساحة ذاتها بالضبط. وبمقتضى ذلك، ستحتفظ إسرائيل بالأراضي الأردنية التي يستغلها مزارعوها في المنطقة الحدودية، مقابل التخلي للأردن عن أراض غير مزروعة بالمساحة ذاتها»16، على أن تحدد باقي المساحة كما هي في خط الهدنة.

أعجب «الإسرائيليون» بقبول الملك حسين مقترح التبادل. وعبّر «حاييم لفيطا» عن تقديره لـ«كرم الملك حسين لمعرفته أهمية الأراضي المزروعة بالنسبة لإسرائيل مقابل الاهتمام القليل للزراعة في وادي عربة من قبل الأردن، وأنه من المشكوك فيه أن نجد زعيمًا عربيًا آخر من الممكن أن يتصرف بهذه الطريقة».

عمليًا تم استبدال الأراضي المزروعة داخل الحدود الأردنية بأراضٍ يصفها رئيس الوفد «الإسرائيلي» بأنها «أراضٍ صخرية أو حجرية»، مؤكدًا على نقل الأراضي المزروعة «للسيادة الإسرائيلية»، مقتبسًا كلام أحد كبار مستوطني وادي عربة: «لقد تم ترسيم الحد أينما وصل المحراث العبري».

احتلال الغمر بالزراعة
بعد انتقال الأراضي المزروعة الواقعة على الحدود «للسيادة الإسرائيلية»، بقيت قطعة أرض واحدة كان من الصعب تبادلها لأنها تمتد داخل الحدود الأردنية بشكل طولي يصل إلى خمسة كيلومترات. تمسك «الإسرائيليون» بها باعتبارها «امتدادًا طبيعيًا» لمستوطنة تسوفار التي أسسها جنود «الناحال» -وهو لواء مشاة في جيش الاحتلال، وأحد ألوية النخبة فيه- عام 1968 عن طريق برنامج عسكري زراعي، كالعديد من المستوطنات الزراعية مع الحدود الأردنية.

رفضت «إسرائيل»، التي تتعامل مع الزراعة بوصفها أداة استيطانية توسعية، أن تتخلى عن هذه القطعة التي تبلغ مساحتها الكلية 4000 دونم تقريبًا، وتبلغ مساحتها المزروعة ألف دونم، وتبعد عن طريق البحر الميت القديم كيلومتر واحد فقط.
في المفاوضات، وافق المفاوض الأردنيّ على إدراجها تحت «نظام خاص»، بحيث ينطبق عليها ما ينطبق على الباقورة. تعترف «إسرائيل» بالسيادة الأردنية عليها لكن تضمن الأردن «حقوق المزارعين الإسرائيليين فيها»، والتي سميت في المعاهدة «حقوق استعمال إسرائيلية خاصة تتعلق بالأرض». وإذا اعترف الأردن بالملكية «الإسرائيلية» للباقورة، فإنه اعترف بحق الاستخدام في الغمر، كما تبيّن المعاهدة.

يزرع «الإسرائيليون» في هذه الأرض الأردنية الفلفل والكوسا والزهور لغايات التصدير أو الاستهلاك الداخلي. بعد توقيع المعاهدة، أعرب أحد المزارعين -وهو عسكري متقاعد شارك في ثلاث حروب ضد العرب- عن سعادته بهذا الاتفاق قائلًا: «هذا هو الحل الأفضل بالنسبة لنا، إنه (اتفاق) رائع».

كما في حالة الباقورة، يستطيع الأردن بعد أشهر قليلة وفقًا للمعاهدة أن يبلغ «إسرائيل» نيته عدم تجديد هذا «النظام الخاص».

العقبة: الاحتلال يفرض الأمر «الواقع»

في العاشر من آذار عام 1949 وأثناء مفاوضات الهدنة بين الأردن و«إسرائيل» قامت قوات الاحتلال بما أسمته «عملية عوبدا» والتي تعني بالعبري «الواقع» في إشارة إلى خلق أمر واقع فيما يتعلق بالحدود الأردنية الإسرائيلية عند خليج العقبة. اخترق الاحتلال «الإسرائيلي» خط الهدنة بطول 2 كم واحتلّ مدينة أم الرشراش بمساحة تقدر بسبعة كيلومترات مربعة، وأنشأ عليها لاحقًا ميناء إيلات على البحر الأحمر. ويذكر خالد حباشنة أن الأردن قدّم احتجاجًا إلى وسيط الأمم المتحدة في ذلك الوقت رالف بنش. وتعامل الأردن مع هذه المنطقة باعتبارها منطقة محتلّة، إذ يؤكد أطلس المركز الجغرافي الأردني تحت عنوان «خريطة منطقة الاحتلال في خليج العقبة» أن «إسرائيل احتلت الموقع الحالي والمبين في الخريطة، بحجة أن الحد الفاصل بين فلسطين وشرق الأردن في عهد الانتداب كان يمثّله هذا الخط».

أما الذريعة التي استندت إليها دولة الاحتلال فهي الوثيقة الصادرة عن سلطات الانتداب البريطاني والتي تشير إلى ترسيم جزئي للحدود، بين الأردن وفلسطين، حددت إحداثياتها عام 1946، وقبل عشرين يومًا فقط من إعلان استقلال الأردن، حيث وقعت بتاريخ 5/5/1946 من قبل كلٍ من مدير دائرة المساحة في فلسطين، ومساعده مدير دائرة الأراضي والمساحة في شرق الأردن، وكلاهما بريطاني الجنسية. وهذا ما تشبث به «الإسرائيليون» أثناء مفاوضات وادي عربة.
يقول حاييم سريبرو المسؤول «الإسرائيلي» عن ترسيم الحدود البرية والبحرية بين «إسرائيل» والأردن في مفاوضات وادي عربة في تقرير للاتحاد الدولي للمساحين أنه «في أيار1946، عشية استقلال الأردن ونهاية الانتداب البريطاني عن شرقي الأردن، قامت الإدارة البريطانية من كلا الجانبين بترسيم 3.7 كم من رأس خليج العقبة، وذلك لترك مجال لمينائين منفصلين سيتم بناؤهما في المستقبل على جانب شرق الأردن -التي أصبحت الأردن- وإلى جانب فلسطين -التي أصبحت إسرائيل-».

في النهاية، وافق المفاوض الأردنيّ على ترسيم حدوده وفقًا للمصالح «الإسرائيلية» القائمة على ترسيم عام 1946 متنازلًا بذلك عن أراضي أم الرشراش، حيث أنه لم يتمسك بالعودة إلى خط الهدنة القائم على اتفاقية رودس التي وقع عليها باعتباره طرفًا فيها عام 1949، بل رضخ لوثيقة لم يكن الأردن عمليًا طرفًا فيها. تلك الوثيقة التي صاغها ووقعها طرف واحد من جانبين هو الانتداب البريطاني.

خاتمة

خرج الأردن رسميًا من الصراع العربي الإسرائيلي مع توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994. وكثيرًا ما تمسكت السلطة السياسية بخطاب «المصالح الأردنية» و«الالتفات للذات» كمبررات للسلام مع «إسرائيل»، خاصة بعد توقيع منظمة التحرير لاتفاقية أوسلو، على اعتبار أن الأردن لن يكون «فلسطينيًا أكثر من الفلسطينيين». لكن ما يؤكده لنا السياق التفاوضي ومخرجاته فيما يتعلق بالأرض والحدود في المعاهدة هو أن السلطة السياسية تنازلت عن حقوق تاريخية للشعب الأردني لصالح دولة الاحتلال.

ففي المناطق الثلاث التي احتلتها «إسرائيل» منذ عام 1949 وحتى توقيع المعاهدة، رضخ المفاوض الأردني للمصلحة «الإسرائيلية» على حساب المصالح الأردنية، ابتداءً من التنازل عن أراضي أم الرشراش التي احتلتها «إسرائيل» بعد أن خرقت خط الهدنة عام 1949 مرورًا بالاعتراف بمُلكية «إسرائيلية» لأراضٍ في منطقة الباقورة الأردنية تبلغ مساحتها 830 دونمًا، وصولًا إلى تبادل أراضٍ يضمن مصلحة «المستوطن الإسرائيلي» في وادي عربة، بالإضافة إلى الاعتراف بحقوق استخدام «إسرائيلية» في الغمر الأردنية التي تبلغ مساحتها 4000 دونم تقريبًا.

بعد بضعة أشهر، يستطيع الأردن بموجب نصوص المعاهدة إبلاغ دولة الاحتلال عدم نيّته تجديد «النظام الخاص» على الباقورة والغمر، بالتالي سحب الاعتراف القائم على «حقوق الملكية والاستخدام» واستعادة هذه الأراضي للسيادة الأردنية بالكامل. هل سيستعيد الأردن أراضيه كما أكد رئيس الوزراء الذي وقع على المعاهدة عبد السلام المجالي حين قال بكل ثقة قبل ثلاث سنوات «هذي راجعة وهذي راجعة» في إشارة إلى الباقورة والغمر، أم سنتركها للمستوطنين «الإسرائيليين» خمسة وعشرين عاما أخرى؟

المصدر .. حبر
شاكر جرّار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى