هزاع البراري: الموهبة العجرة ونضج التجربة

#هزاع_البراري: #الموهبة العجرة ونضج #التجربة

#شبلي_العجارمة

عندما تحاصرك حيرة الكتابة بين غرضين، وأنت على سراط الحياد الشبه مستقيم، غرض الصداقة المحشوة بين دفتي زمن الطفولة والحلم ،وغرض إنصافك للإبداع وفتنتك الأدبية التي تراود بوحك عن ذاتها ،تعبرك الصباحات تلو الصباحات، تبرد قهوتك وتمسح النص مرتين وتنام ،على أمل أن تجرَّ فلول الحيرة في ظلال صباحٍ آخر على قارعة فنجان قهوةٍ آخر طازجٍ وجديد .
وأنا هنا أحاول نحت وجه الفتى الحشبوني من حكاياته المتمردة على قمقم اللغة ومارد العزلة، أحاول أن أقرأ ملامح هزاع في ورقه الغافي على سواحل مداده الغزير وضفاف فلسفته العالية ، تُبدل وجه أرضي صدى طفولته التي قرأتها ذات رجعٍ من صدى الزمن عن حاضرٍ وعن ظهر قلب حين كنا صغاراً، وإذ أنا أمام كل هذا التشظي الجدلي ، لوجه هزاع الحسبوني وقلبه الوطني وأنامله النحيلة التي لا زالت تعتقل أقلامه وتزجها خلف قضبان صدره لبوحٍ عابرٍ رغم براءتها المطلقة، يتكاثف أبو ورد كالسحب في أرض تجاربه العتاق بثياب عصريتها، وروح أبديتها ومصابيح راهب تنويرها ، ليهطل ربع غموضٍ ونصف لا وجوديةٍ وربع وضوحٍ لدهشة العزلة المثقفة واجتماعية الانعتاق من وحي خياله النابض إذ لا يترك خيط دليلٍ إلا ظله المصلوب بين صباحات عمان وليل كرمة حسبان.
ربع قرنٍ من صعلكة النثر ، وربع قرنٍ آخر على عرش السرد ،وهو يؤبن بعض الحكايات المنسية ليبث روحها الأخرى في قراه المثلى ومدائنه الفاضلة بنكهة هزاع ولون إنسانيته التي تذوب في مرارة روح من عرف هزاع عذوبةً وسكر.
ذات يوم وعلى بوابة الدعابة قال لي :” أشتاق لطفولتي، لعبثيتي ، للعب الورق وعشوائية الصراخ إذ كنا بلا عناوين ولا قواشين للأحلام كمشاع اليباب ” ، هزاع والعائدُ الآن إلى ذاته بعد أن خط الشيب بعض مفرقه ، يقبل هامة وطنه الذي طالما حمله في أعالي حجرات قلبه إلى عواصم الإبداع وفراقد الخلود والدهشة، أراه الآن يشرب بعض جليد أحلامه عن وسائده التي أوحشتها الشمس على طرف خده الذي جفت منه بعض ابتساماته وتحجرت ، هزاع الذي تاق ليبدل طعم يده وهو يمدها من نافذة غرفته ليلملم الندى عن أقحواناته وزنبقه الذي ارتوى من وحشة أولوياته ظمأً ويباس، هزاع الذي تأنسن مع عتمة روحه ووحشة اشتياق أطفاله لوجهه الشاحبِ من تعاقب ليلين ونهارين وهو يبذر غيم السفر والترحال من قرنفل عمان وقمح حشبون وتجاعيد فراغه المتخم ازدحاماً وحيرة.
وأنا أحاول أن أعقد خيط النص الأخير من إبرتي وفائي الدرداء لصديق العمر وجار طفولتي ، تداهمني الآن دمعتان وبسمة ، حين كنت ذات ليلةٍ أجر تعبي وجسدي المثقل خلف مقود سيارتي على شارع السلام وأنا عائدٌ من بذخ الوجع ، توقفت على إحدى الإشارات الضوئية، فعرفت سيارته ، فقمت بالاتصال عليه، لم يترك الهاتف يكمل شهيق الموسيقا ، بل أجابني بروح دعابته وهو يقول :” أكيد انك قريب مني والا كان ما رنيت بهيك وقت” ، فضحكت وقلت له على بروتوكولنا البدوي القروي الحاتمي :” أبو ورد أنا معي عشا صاخن ، بالله عليك ميل كل عشاي الله لا يردني ” ، ضحك وقال لي :” عقب ايش لو حكيت قبل نص ساعة ، والله أنا هاي جيتي من إربد من موسمها الثقافي ، وميلت اشتريت سندويشة شاورما وقاعد آكل فيها ، من الظهر على لحم بطني”.
هذا هو هزاع البراري، بكل أبجدياته وتفاصيله العذبة والمالحة، بسكر وقته ومررات عذاباته، هزاع البراري من طرز ثلاثة تواريخٍٍ في زمنه الأحادي ؛ تاريخ عشقه العموني الأبدي ،وتاريخ إنسانه الذي أخاط ببوحه بعضٌ من جراحاته، وتاريخه الشخصي الأبيض النقي الذي أودعه رفوف الانتظار وهو يبذر حقول وطنه صمتاً ونبضاً وحكايا.
اتركك يا صديقي. هذا الصباح تحدث مرآتك العاتبة على سرمدية جفائك لها منذ حقبةٍ ونيف ، لخصومة مشطك الذي اشتاق لشعرك المبلل بندى حديقتك، اتركك لترتوي من أوكسير قريتك وترتشف شمس حقولها الهاربة على مكثٍ بلا عجل ، اتركك وانت تنام ملء عيونك وتغلق هاتفك على مجانية وقتك ومزاجية صحوك .
ولا زالت تينة موهبة هزاع البراري الفارعة طولاً والوارفة ظلالاً رغم نضجها الغض،تحمل الكثير على اغصان لا وحوديتها من عجورتها الكثير الكثير و التي سنغمزها كلما تأرجحنا في جذعها وعبرنا ظلالها البعيدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى