هبني من لدنكَ ضوءًا .. للكاتبة اللغوية سهى نعجة: أناقة لغةٍ وهندسة صور وتنغيم إيقاع

“هبني من لدنكَ ضوءًا “
للكاتبة اللغوية #سهى_نعجة: #أناقة لغةٍ وهندسة #صور وتنغيم إيقاع.

أ.د #خليل_الرفوع

في إصدارها الأدبي الآخير ” #هبني_من_لدنك_ضوءًا ” الصادر عن دار الآن ناشرون وموزعون عام ٢٠٢٢م ، تتموسقُ الكلمات في توقيعات شعرية، وتتوهج لغة وصورا وإيقاعا وإبداعا وانزياحا في حالة صوفية موغلة في الأنا والآخر القريب لتشكيل نص أدبي ممتد لا يحده رويٌّ أو قافية ، بل يتفتح معاني متشابكة تفوح حنينا وأملا وحياة مثل زهر اللوز حينما يبوح بهجة وألقا وغواية.
الأستاذة الدكتورة سهى نعجة أديبة لغوية تكتب الكلمة صورةً والصورةَ نغما ، فبعد كتابيها : بصيرة عمياء وذات أرق ، يجيء هبني من لدنك ضوءا ليكون استكمالا لمنجز أدبي كامل البهاء والدهشة والإبداع ، ولأعذرْ إن قلت في شرفات هذه التآليف الثلاثة: إنها إيقاعات وجدانية تُتغَّنى على وتر فني محكم ، تستظل الكاتبة بالغمام لتمطر الكلمات بأحرف قطنية ناعمة، وكأنها مغزولة برائحة القمر والسنابل ومغسولة بضوء الصبح والياسمين .
إلى ابنها محمد العاشق والمعشوق يبتدئ النص، وتختتمه بمناجاة مُدفأة بأمومة يلسعها الاغتراب وتراود العشب روحها متخمة بالسفر وكل شيء حولها يحتضر إلا الكفن باحثة عن وطن منتظر، وهي على مرمى نرجسية مندّاة وتغني للحزن البري ويحزُّ قلبها مدامع وشوك الشوق؛ لأنها ربة الكلمات ومشكاة الصبر وميراث الوفاء للآخر الابن والزوج والأهل .
محمد ضوء الروح الذي تريده وتبحث عنه في الذات، وتقتفي شغفه كي تنسجه حبا وأملا ، وتبسط رهبانيتها صلاةً تسبح فيها لله سبْحا طويلا .
تقول الكاتبة في المفتتح تفيض على محمد الرضى والبر:
” ودعني بنعيم فردوسك
أتكوثر وأتعطر
حذارِ يا حِبّ:
نعسةً عني
فينهد فيّ الجُبُّ …” وفي أخر نص تتلو أنفاسها لمحمد:
” توضأ بالدعاء
وصلِّ لمن توسدتَ زنده ذات رجاء
ومد يديك لرب السماء….
راعف فيّ أنت فهبْني من لدنك ضوءا”.
فهذه الترنيمات تحفر في الروح علامات الشعرية ووشوم العشق ، تفيض مع بقية النصوص شعرية استعارية لا تتوقف؛ فاللفظة عندها ومضة وجدانية فلسفية تتحرك ضمن رؤية فنية صادقة. والآخر هو ناي الخلود سليل الشوق، تستكمل صورته كما نسجتها في بصيرة عمياء ” كلماتي دونك يتامى
وجُملي أرامل
حذارِ أنا حرف جر وفعل معتل أنت” وفي هبني من لدنك ضوءا نرى الآخر ” إضمامة نور سماوي، إنك إني لا سواك أناجيه
وليس سواك يستحلُّ فيض بياني
ما أشبهكَ بالمطر أتطهر به وأتعطر “.
ومقابل الآخر تبدو صورة الكاتبة فنيا :حبلى بالكلام عطرية الروح قلبها نار تلظى، تورق خضرة وتتضوع رحيقا أنثويا خالصا
“حِبري فسيح
وأصابعي كسيحة
غير أني حبلى بالكلام
سأظل أورق فيكَ
عنوةً
فرحيق أنثاي لا يهدر
أسرجتُ خيلي
فهل تبدأ نضالكَ
لأجلي”
ولعل ما يضيف علامات إبداعية في النصوص تلك الصور الجديدة التي لم نألفها في ذاكرة ديوان الشعر العربي من قبل، كقولها:” الفجر قهوتي ، الشمس ضحكتي ، السلاف فلفلي ، البيد لا يعطرها المطر ، ليليْ كحبري مشاكس شقيّ ، مارتْ فيِّ الحشرجات ، الحب قزَحي اللون ، كرز أحمر أنت عنقود عنب وإني مزاجه ، الخاصرة سماوية البوح ، قد توسدت خاصرة الدعاء ، ثلمتَ أنفاسي بمنجل الكلمات ، لدغني الجمال، مُسّني بنبضك، يرتعش الضوء في عيني التياعا ، يغفو الفجر على زند العصافير، جفّ ضرع القصيدة “.
فاللفظة وحدها صورة فنية، وهذا ما يميز الكاتبة بلغتها الشعرية الاستعارية المتدفقة التي تنداح منذ ومضة العنوان حتى آخر هدأة في النص المتكامل فنيا. وليس التجديد في الصور وحسب بل تبدو الألفاظ متزينات متأنقات “فالصباح مُعْسوْسل ، والقلب تكهرب ، والكلام يتحشرج، والروض مغناج والحب يتكهّف ” .
وتستحضر الشعراءَ حالاتٍ مندغمة المعنى في النص ” لكنه العنب
دار في الرأس
بعد أكؤس
وشَى بمعناها المهلهل وامرؤ القيس “
ومن قيس بن الملوح تستحضر رجاء اللقاء وقد ولدت نفسُها أنفسا عِطاشا على الرغم من كثرة الماء :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
تساقطُ نفسي حين ألقاك أنفُسا
يردْنَ فما يصدُرْنَ إلا صواديا
“ربي سبحانك : يجمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا” ، ومن مصطفى وهبى التل تصطلي توهجا في قوله :
أهكذا حتى ولا مرحبا
لله أشكو قلبَك القُلّبا
لتعيد الشكوى ليس من قلبه بل من قلبها هي حتى لكأنه يلتذ حتى بالهجر
” يا نبع نبضي
أهكذا حتى ولا مرحبا
ويحًا لقلبي إذ يلتذ منك بالهجر”
ومن الشخصيات التاريخية الأدبية تستحضر حالة شهريار الملك
” أنام فأحلم بشهريار
يراود دواتي
ويخط بريشتي
لنسوة قضين العمر في انتظار موت
لا بواكي له بسيف مسرور “
إنه رفض لحال النساء اللواتي ينتظرن الموت بعدما كان شهريار المخلص لهن بعد أن قضى بحكاياته ألف ليلة لم يستبح دماءهن لكن المرأة لم تخلص نفسها من قيد الوهم ومأساة الموت الفجائعي.
وبعدُ، فإن أدب الأديبة سهى نعجة يتنفس شعرا ريانا بالفن يسير على شرفات الغيم ليرسم بالاستعارة ضوءا كما أرادتَه رسيسا من محمد الابن وسيد الكلمات الذي أظمأها انتظارا، وقد استحال نبضه فيها ألما بعد أن نضّرَ الروح زمنا واستراحت على زنده. إنها حالة شعرية أضافت للمكتبة الأدبية الأردنية والعربية نصوصا إيقاعية مكثفة الانزياح والرؤى تومض كل كلمة شعرا ينبض حبا خالصا وأمومة مبهجة، إنها نصوص تستحق القراءة والتأمل والتوحد فيها .
أ.د.خليل الرفوع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى