نور على نور

#نور على نور
د. هاشم غرايبه
مما يظهر عظمة #الإسلام وتفوقه الشاسع، أنه لا يعطي الفرد قدسية، فهو يُجلُّ المبدأ لا حامله، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتبره أعداؤه المنصفون #أعظم_شخصية في #التاريخ بلا منازع، فيما يعتبره محبوه قدوة ونبراسا، لكنهم لا يؤلهونه ولا يقدسونه، إنما بالمقابل يحبونه محبة خالصة لم ينلها أحد من البشر على الإطلاق، وهي محبة تتعاظم على مر الأزمان ولا تنقص بعد موته مثل محبة الناس لبعضهم بعضا، ومن تكريم الله له أن جعلها أهم دلالة على الإيمان بالله، فقد يحب امرؤ آخر حبا جما، لكنه لا يصل لدرجة حبه لماله وولده، لكن المؤمن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه.
لم ينل أي رسول سبقه هذه المنزلة الرفيعة، لأنهم أرسلوا الى أقوام محددين وزمان محدد، فيما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين ولقادم الزمان، فباتت رسالته أعظم نعمة للبشر، وفضله نالهم جميعا، إذ كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها.
هذه الشخصية الفذة حالة فريدة في البشر، لذا ينبغي تتبع سيرته صلى الله عليه وسلم، فحياته كلها كانت قدوة، وسيرته مدرسة لا توازيها مدرسة، فكل أفعاله وأقواله كانت نبراسا للحكمة، يفترض أن تستلهم منها السياسات وأن تستنبط منها العبر، وخاسر خائب من لا يستفيد منها دروسا، تحل المشكلات الكبيرة والصغيرة، وقد رأينا كيف أن تلامذته (الصحابة)، قد تحولوا بفضل ملازمته، من أناس عاديين يعيشون في بيئة منعزلة، الى قادة للعالم ومفكرين، صنعوا أعظم حضارة في التاريخ.
اخترت من سيرته العطرة موقفين جليلين، يعلمانا درسا في حكمة القيادة وبعد النظر، وهما أحوج ما نحتاجه في أيامنا هذه، حيث غلبت على بعض حكام الأمة الحماقة وسفاهة الرأي :
الموقف الأول كان في معالجة حالة “حاطب بن بلتعه”، والذي أرسل كتابا الى قريش يخبرهم بأن المسلمين يعدون العدة لغزو مكة، ولما ضبط بالجرم واعترف، اقتاده عمر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا الإذن بقطع رأسه جزاء خيانته، لكن النبي قال له: لا يا عمر، إن حاطباً شهد بدراً فدعه لي، ولما سئل عن سبب فعلته قال: والله إني لست مرتدا ولا منافقا، ولكنني رأيتني وليس لي أهل يمنعونني من قريش فأحببت أن أدخر عندهم صنيعا وأنا أعلم أن إخباري هذا لن ينفعهم في شيء، فأخلى النبي المحب لأصحابه سبيله، وكان حِلمه هذا مع عظم الجرم سبيلا لكي يبذل “حاطب” قصارى جهده فيما بعد في خدمة الدعوة.
الموقف الثاني كان في الحكمة والمهارة في إدارة الأزمات، فبعد غزوة حنين كانت أركان الدولة قد توطدت، ولدى توزيع الغنائم خصص جزءا كبيرا للمؤلفة قلوبهم، مما أثار تذمر الأنصار، فجاء زعيمهم سعد بن عبادة الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائلا: إن قومي قد أوجدوا عليك (أي أضمروا الضغينة)، فقال اجمعهم لي، فخطب فيهم قائلا:
“أما واللّه لو شئتم لقلتم ، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك، أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار”.
فوقعت هذه المقالة من نفوس القوم موقعا عميقا، وبكى القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم.
وقد التزم بما قاله في الأنصار، فقد رفض العودة الى موطنه مكة بعد فتحها، فظل في المدينة، وأوفى خلفاؤه بوعده فبقيت المدينة عاصمة الدولة.
في الحالة الأولى نتعلم كيف يتم استيعاب المخطئ وتحويله الى شخص نافع، وأما الثانية فتعلمنا مهارات القائد الذي يتمكن من تطويق الأزمات في مهدها، ويلجأ الى الحوار والإقناع بدل الضرب بيد من حديد، التي هي سمة العاجز عن استيعاب الآخر بالحسنى.
القيادة الفذة هي التي ارتقت بالأمة فسادت العالم، أما قيادة من أعرضوا عن منهجه فلم تورث الأمة إلا المذلة والصغار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى