نور على نور

[wpcv_do_widget id=”wpcv-stats-3″]

نور على نور

د. هاشم غرايبه

عند توصيله طلبية طعام جاهز، قال موظف التوصيل، كعادة الناس: خليها علينا، فتمسك طالب الطعام بحرفية العبارة، وقال: شكرا لكرمك ولم يدفع المبلغ المطلوب، فوقف الموظف ينتظر الدفع وأصر الطالب على أنه سامحه بالمبلغ فلا يحق له العودة عن ذلك: فرد عليه الموظف: صدقني أنك لو دفعت الآن سيكون أرخص عليك كثيرا من يوم القيامة. هنالك فهم خاطئ شائع بين الناس، أن الدين هو أداء العبادات، ولا يعرفون أن الله أنزله ليقوّم سلوك الناس ويمنع الظلم فيما بينهم، وأغلب الظلم يتحقق في أكل حقوق الآخرين. الغريب أن أكثر ما يقلق أغلب الناس هو قبول عباداتهم، فتجدهم يتحرون ويستفتون: هل هذا جائز أم لا، لكن قلة هم من يدققون في تعاملاتهم مع الغير، ويكتفون بأنفسهم حكما فيها، مع أنها دائما متحيزة لمصلحة الذات. الخاسر الحقيقي هو من اعتقد أن إيمانه وكثرة صومه وصلاته وصدقاته، ستعوض ما أكله من حقوق الآخرين، فالله تعالى قد يغفر ويسامح المؤمن المقصر في حقه، لكنه لا يسامح في حقوق العباد، فهي تستوفى وقبل الميزان، وبالقيمة العادلة كاملة وليس بقيمتها النقدية زمنها. عندما تنشر الصحف، ويعرف كل امرئ ما له وما عليه، يومها لا تنفع الندامة ولا تفيد التوبة، لذلك فالعاقل لا يقول دع الحساب ليوم الحساب، فيومها لا محاججة ولا دفاع، بل إذعان وتسليم، لذلك يحاسب نفسه أولا بأول ويعدل الموازين قبل الميزان الفصل، فيأتي مطمئنا حاملا كتابه في يمينه ويقول:” هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ”. اننا نعلم يقينا أن الله لم يخلق الناس لكي يعذبهم، بل لكي يسعدهم في نعيم لا يزول، ولم يخلق الجنة إلا من أجلهم، ولأنه يحبهم، أما النار فقد خلقها لكي يخافوها وتبعدهم عن سلوك الطرق المؤدية إليها، وتحفزهم للعمل الذي يؤهلهم لدخول الجنة. هذه سنة الله في الكون عادلة، فهي ثنائية تقابليه: جنة ونار، ..نعيم وشقاء، ..موت وحياة، ..خير وشر، ..جور وقسط.. الخ. ولأن لكل منهما اتجاه يناقض الآخر، ونتيجة معاكسة، فمن يعمل خيرا ينتج عن عمله نفع، ومن يعمل شرا ينتج ضررا، فلا يعقل أن تنال النتيجتان المتعاكستان الجزاء نفسه، لأن العدالة تقتضي أن يكون الجزاء بمقدار العمل، لذا فالثواب والعقاب لازمان بلزوم الإنصاف، وإلغاؤهما استغراق في الحيف، وحاشا لله أن لا يكون عادلا منصفاً. قد يقول قائل إن الله قدّر لأناس أن يكونوا لجهنم استناداً الى قوله تعالى:” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّم كَثِيرًا مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس “، فكيف يعاقب الله أناسا قدر عليه استحقاق العذاب، وهل كان بإمكانهم الخروج على إرادة الله؟. إن تقدير الله هنا هو من باب معرفة الأمر قبل حدوثه استنادا الى الربط بين السبب والمسبب، وليس من قبيل إصدار الحكم وتقرير النتيجة، وللتقريب (ولله المثل الأعلى) فذلك كالمعلم الخبير بطلابه، قد يحدد أن فلانا سيكون من الأوائل وفلان سيكون من الراسبين، هو لن يتدخل في النتيجة لكن النتائج لن تكون مغايرة لتوقعاته. وهنالك تطبيق على ذلك، وهم ما جاء في سورة المسد في حق أبي لهب:” سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ”، فقد كان بإمكان أبي لهب أن يتفلت من العقاب ويؤمن ويَحسُنُ إسلامُه، لكن القطع في صياغة الآية جاء بسبب معرفة الله تعالى بطبيعة أبي لهب وعنجهيته التي لن تدعه يسلم، وليست قسرا من الله وإجباراً على سلوك هذا المسلك. ما يبعث على اطمئنان المرء أن الله سمى نفسه الرحمن، وهذه الرحمة شاملة لكل الناس، الطائع منهم والعاصي، فرحمته للطائع أنه يحسب أفعاله السيئة بمثلها والحسنة بعشرة ويزيد، وإن همّ بسيئة ولم يعملها فلا تحتسب عليه، وإن هم بحسنة ولم يفعلها تحتسب له. وأما رحمته للعاصي أو الظالم فهي أنه لا ييأس من عودته الى الحق، ففتح له باب المغفرة والنجاة من النار، وترك الباب مفتوحا حتى آخر ساعة من حياته، فمن تاب بنية صادقة فأمن وأصلح ما أفسده وأعاد الحقوق لأصحابها نجا. أما المؤمنون فاطمئنانهم مضاعف، إذ ينالون رحمة أخرى وهي رحمة الرحيم، المخصصة لعباده المؤمنين، وهي التي يأمل من لم يكن في موازينه ما يكفي لإثقالها، بعفو الله الذي ينجيه من العذاب، وذلك الفوز العظيم.

[wpcv_do_widget id=”wpcv-table-2″]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى