
د. #هاشم_غرايبه
قد لا يعرف كثيرون أن الفلسفة الغربية الحديثة التي طابعها الحادي، منشؤها لاهوتي، وبدأت بمحاولات قساوسة المزاوجة بين المقولات الكنسية والمنطق، وفشلت جهودهم بسبب الاصرار على فكرة التثليث الزائغة، وعندما ظهر فلاسفة مثل “ديكارت” و”سبينوزا” و”لايبنتز” في القرن السادس عشر، كان توجههم الى تمجيد العقل كوسيلة وحيدة الى المعرفة، وتجنبوا الحديث عن الله بشكل مباشر، فكانوا يشيرون اليه بمسميات مثل (الجوهر) أو القوة الأعظم، إلا أنهم كانوا يعتبرون فكرة عدم وجوده مستحيلة.
تعود أسباب التخبط هذا الى انغلاق الغرب أمام الفكر الاسلامي، وبسبب هذا التعصب المتوارث لم يعترفوا بأنه دين سماوي، بل إنهم لم يناقشوا مقولات الفلاسفة المسلمين مثل الكندي والفارابي وابن رشد والغزالي الذين سبقوهم بثمانية قرون الى وضع الاجابات على الأسئلة التي حيرتهم، إنما استغرقوا في دراسة الفلسفات الصينية والهندية والإغريقية.
لذلك تاه فلاسفة الغرب المتأخرين في تفسير الصراع بين الخير والشر، فذهب بعضهم مثل “برتراند راسل” الى القول بأنه نزاع بين الله والشيطان، على أنهما قوتان تتنازعان السيطرة، وبالطبع ضلال هذا الفيلسوف ناجم على كون معلومته مصدرها التوراة المحرفة التي أوردت قصة تتنافى مع المنطق عن قتال جرى بين الله ويعقوب، لكنه لوتجاوز التعصب الانغلاقي لوجد التفسير في كتاب الله.
لقد أورد القرآن قصة خلق آدم والحوار الذي جرى مع الملائكة من جهة، والحوار الذي جرى مع ابليس من جهة ثانية، لنستنبط فهما لهذه المسألة التي حيرت الملائكة، فتساءلوا: “قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ”، فلم يبين الله تعالى حكمته من استخلاف بني آدم في الأرض، بل قال: “قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة:30]، ثم أثبت لهم ذلك حينما علم آدم ما لم يعلمهم.
أما قصة رفض ابليس السجود لآدم، رغم أنه لم يكن سجود عبادة له بل سجودا لفضل الله وبديع صنعه، ففيها تتجلى بدايات الانفصال بين الطاعة لله وعصيانه، وظهور أول تمرد على أوامر الله.
وفي قوله تعالى: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ” [ص:75]، وفي قصة عصيان آدم ربه عندما أكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها، نتبين أنواع الخطأ الذي يقع فيه العبد أمام ربه،
وهو على ثلاث صور:
الأول خطأ غفلة، مثل خطأ الملائكة حول استخلاف آدم وذريته في الأرض، وتصحيح هذا الخطأ يكون بالمعرفة، ولذلك أجابهم الله تعالى مع أنه لا يسأل عما يفعل والعباد هم من يسألون.
الثاني خطأ آدم الناجم عن النسيان: “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا” [طه:115]، والنسيان نقيصة بشرية، وتصحيح هذا الخطأ يكون فور التذكر بالتوبة والاستغفار: “وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” [الأنعام:68].
أما الثالث فهو الناجم عن الاستكبار والعلو، والمتمثل بخطأ ابليس، فرغم أنه لم يستكبر على امر الله عصيانا بل على السجود لمخلوق يراه أقل منه شأنا، إلا أن عُجبه بنفسه وتعاليه على مخلوق غيره هو الخطأ الذي أغضب الله، لذلك فهذا هو الخطأ الذي لا يصلح ولا يغفره الله.
وعندما عرف إبليس ذلك، أيقن أن أمر السجود هذا كان لكشف طبيعته المتعالية، فالملائكة من طبيعه أرقى وفي منزلة أعلى من البشر، الا أنهم استجابوا وسجدوا، حينها طلب من ربه تأجيل العقوبة: “قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ “، ليتاح له الانتقام من هذا المخلوق الذي تسبب بطرده من رحمة الله: “قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ” [الأعراف:16،14].
بالطبع ليس في تلك الأحداث خيار لإرادات المخلوقات الثلاثة، بل كله تدبير من الله لينفذ سننه، فهو يعلم نقاط ضعف آدم ونية ابليس، فترك الخيار لآدم ولم يحمِه من وسوسة ابليس، حيث أنه قدر عليه الاستخلاف في الأرض من قبل، فكان عصيانه ليريه مناقصه وليستحق الخروج من الجنة، ثم باستهداف ابليس ذريته في الأرض، لتحقيق سنة الثنائية الضديه، في تجاذب الانسان بين الهدى المتمثل بطاعة الله واتباع منهجه، والضلال المتمثل بغواية الشيطان، أي باتباع الشهوات والأنانية.
هذا هو أصل الصراع بين الخير والشر، وأراده الله لتحقيق سنة الابتلاء والتمحيص.
