
#نور_على_نور
د. #هاشم_غرايبه
لعل ما أحاق بالأمة في العصر الحديث، يفوق كثيرا ما لاقته عبر تاريخ صراعها الطويل مع المتربصين بها والطامعين بقهرها، فقد غزاها المغول واستباحوا حماها زمنا ثم زالوا، وهاجمها الأوروبيون في حملات صليبية متعددة ثم ارتدوا عنها خائبين في كل مرة.
لكن ما حصل منذ أواخر القرن العشرين من تحالف عالمي لكل قوى الشر المعادية، واستهداف المسلمين علانية في سلسلة حروب متتالية، وبذرائع واهية بدءا من الحفاظ على حق تعليم الفتيات في أفغانستان، ثم تحرير الكويت، ثم منع العراق من تصنيع أسلحة الدمار الشامل، ثم محاربة الإرهاب، وآخرها التي تجري الآن على ساحة القطاع لاجتثاث فكرة المقاومة الجهادية.
ذلك كله جعل المتمسكين بجمر الصبر على الشدائد التي أحاقت بالأمة طوال القرن الماضي، وهم ينتظرون النصر الموعود، جعلهم يتساءلون بقلق: ما الذي أخر وعد الله الحق بنصره أمته؟
لا شك أن الله ما أنزل هذا الدين لكي يهزمه الضالون، ولا كرّم هذه الأمة بحمله وتقديمه الى الناس جميعا، ليجعل النيل منها متاحا للغزاة، وديارها مباحة لكل طامع، إنما هنالك سنن كونية عامة وضعها الله لتحقيق النصر، لا محاباة فيها لمن أطاعه ولا لمن عصاه وهي الغلبة للأقوى، ولكنه حماية لدينه أوجد سننا خاصة بمن اتبعه، إن أوفى بها المؤمنون تلغي ذلك الشرط.
إن نزول الدين للبشر أصلا كان تنفيذا لكلمة الله يوم أن أخرج آدم وذريته من الجنة وأسكنهم الأرض: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة:38]، فقد وعد بني آدم أن يهديهم سبيل الرشاد، وهو معرفته واتباع منهجه، فمن تبع هذا الهدى واتبع ما جاء به المرسلون نجا، وكان جزاؤه الجنة، ومن تبع هواه (إبليس) وانقضت مدة حياته على الضلال، فقد اختار سوء العاقبة التي بينها الله: “قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا” [الإسراء:63].
وأكمل الله نعمته على البشر بإنزاله آخر الرسالات السماوية مكملا بذلك الدين، ومبينا أركانه وتشريعاته في القرآن، ليبقى مرجعا مرشدا لمن ابتغى الفلاح واستعد للقاء ربه وفق ما يرضيه: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة:33].
إن الله يعلم أن المتمسكين بدينه سينالهم الضيم، ولن يتركهم الظالمون من جند الشيطان حتى يردوهم عن دينهم: “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” [الصف:8]، لكنه أرشد المؤمنين الى سبيل النجاة من كيد هؤلاء الضالين المضلين: “وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ” [المائدة:56]، كما طمأنهم الى أنهم إن صدقوا عهدهم مع الله فإنه ناصرهم: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” [الروم:47]، ولا قوة في الكون يمكنها أن تبطل وعد الله، فقد جعل سنة النصر لصراع بين باطلين تحققه القوة والغلبة فقط والتي هي بيد البشر، لكنه حماية لمن يتبعون منهجه جعل النصر خارج هذه المعادلة، ويحققه لهم مهما كانت قوة الباطل المعادية: “وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [الأنفال:10]، ويقدر الله هذا النصر وفق سننه وحسب تحقق متطلباته: “وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” [الحج:40].
كانت مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية، تطبيقا عمليا لتلك السنن والأسباب، وقد أراد الله تصريف أحداثها والصراعات العسكرية فيها لتكون دروسا وعبراً للمسلمين لكل الأزمنة القادمة.
وأهمها كان هزيمة المسلمين في موقعتي أحد وحنين، رغم أن المعركتين كانتا بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون متمسكين بدين الله وموالاة الله ورسوله وعدم موالاة من يحادون الله ورسوله، فلماذا لم ينصرهم الله؟.
نلاحظ أنه في “أحد” كانت هنالك مخالفة لأمر القائد، وفي “حنين” كان هنالك اغترار بالكثرة واعتقاد بأن التفوق العددي هو أساس النصر.
لذلك فكان رفع الله النصر عنهم مؤقتا، ليتعلموا أن نصر الله لا يمنح إلا باكتمال كل متطلباته.
ولعل ذلك يجيب على السؤال: لماذا تأخر نصر الله لأمته الآن، فهو موقوف الى حين الإيفاء بثلاث متطلبات أساسية: الحكم العادل بما أنزل الله، وإخلاص النية لدين الله، وعدم موالاة أعدائه.