نفحات من #رحاب_الهجرة:لا تحزنوا إن الله معنا
ولأننا نعيش في الزمن الصعب والأغبر، فإن من الناس ممن تلفعوا بعباءة الإحباط والتشاؤم، فإنهم يتعاملون مع حلول العام الجديد كما تعامل المتنبي مع العيد لما قال:
عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيك تجديد
نعم إن من الناس من إذا قال له أحدهم كل عام وأنتم بخير نظر إليه قائلًا: ومن أين سيأتي الخير ونحن على ما نحن فيه من الواقع الصعب اجتماعيًا وفكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، محليًا وإقليميًا وعالميًا.
ليس إنكارًا ولا تجاهلًا ولا تهاونًا في وصف وتشخيص الحالة التي يمر بها مجتمعنا وشعبنا وأمتنا، فهي حالة في غاية الصعوبة ولعلها غير مسبوقة من كثرة #الفتن والبلاء ومن كيد الأعداء وتطاول السفهاء و #نفاق_العلماء و #خيانة_الأمراء والزعماء الرؤساء، الأمر الذي يجعل الأسى والحزن هو سيد الموقف. حيث شلال الدم ولعنة الجريمة داخل مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، والمجزرة والدمار الذي حلّ بأهلنا في مخيم جنين قبل عشرة أيام، وحالة التطاول والتدنيس والاقتحام للمسجد الأقصى، وما عليه شعوبنا من الظلم والقهر والفقر الذي يمارسه الملوك الرؤساء، وما هم عليه من الذلّ والتطبيع مع الأعداء.
إن كل ما يجري للذي يجب ألا نسمح له بكسر إرادتنا ونزع الثقة من أنفسنا، وإنما يجب أن نواسي أنفسنا بما واسى الله به رسوله ﷺ يوم اجتمعت عليه الظروف الصعبة وقد وصلت إلى حد أن العيش في مكة بلده وموطنه أصبح غير ممكن ولم يعد يطاق، فكان الإذن بالهجرة من مكة إلى المدينة {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} آية 40 التوبة.
“لا تحزن إن الله معنا” كانت هي كلمة السلوى وقطرات الندى والبلسم الشافي الذي أنزله الله على رسوله ﷺ به كفكف دموعه ولملم جراحه وواسى أحزانه. وإذا كان رسول الله ﷺ وهو المؤيد من ربه سبحانه بل الذي كان في عين الله وتحت كنفه، {وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} آية 48 سورة الطور. ومع ذلك فإنه احتاج إلى المواساة والتطمين من ربه سبحانه، وكان هو الوسيلة لمواساة وتطمين أبي بكر رضي الله عنه {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} آية 40 سورة التوبة.
ونحن في رحاب ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فما أحوجنا أفرادًا وشعبًا وأمة لاستشعار هذا التطمين والمواساة، وشد الأزر وتقوية الظهر نواجه به صلف وبطش الأعداء وما أكثرهم، وغدر وتخلي الأشقاء. ما أحوجنا إلى معية الله تعالى ونفحات رعايته تنزل علينا فتحيل ضعفنا قوة وعجزنا إرادة ووحدتنا إلى أنس به سبحانه.
واشدد يديك بحبل الله معتصمًا فإنه الركن إن خانتك أركان
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزه ومن هانه
إن معية الله تعالى كانت هي مصدر القوة لموسى عليه السلام وهو يتقدم قومه في الطريق اليبس الذي كان بأمر الله بعد أن أمر موسى بأن يضرب بعصاه البحر، وإذا بقوم موسى يغرقون وقد رأوا فرعون وجنوده قد لحقوا بهم {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} آية 61-62 سورة الشعراء. تمامًا مثل ما كانت مصدر القوة لرسول الله ﷺ في الغار في رحلة الهجرة وقد قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “والذي بعثك بالحق يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا”. فقال له النبي ﷺ: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} آية 40 سورة التوبة.
وإنها معية الله كانت مصدر القوة ليونس عليه السلام في بطن الحوت وظلمته. وكانت كذلك لإبراهيم عليه السلام في قلب النار ولهيبها، ليأمر الله الحوت أن يلفظ يونس على الشاطئ دون أن يمسه أذى، وليأمر الله النار أن تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم مثلما أمر البحر ألّا يغرق موسى ومن معه.
فوحقه لأسلمن لأمره في كل نازلة وضيق خناق
موسى وإبراهيم لمّا سلّما سلِما من الإغراق والإحراق
لقد تحولت رحلة الهجرة الشريفة من رحلة ترك الوطن والبلد وموطن الصبا، تحولت من رحلة المعاناة والمخاطرة والمغامرة في الطريق، وتحولت من رحلة الخوف مما ينتظر في الطريق ومما سيكون عليه الحال في يثرب بما فيها من قبائل اليهود ومكرهم وجماعات النفاق وخبثهم،
تحولت رحلة الهجرة المباركة من هذا كله وأكثر منه لتصبح هي بداية التاريخ لرسالة ودعوة ودين محمد ﷺ، ولتكون هي اللبنة الأولى التي عليها ستبنى لبنات وصرح الرسالة الإسلامية العالمية. لقد تحولت رحلة الهجرة من رحلة الأحزان وطريق الآلام إلى رحلة الطمأنينة والسكينة ليس لأهل المدينة من الأنصار فقط وإنما للعرب خاصة وللدنيا عامة.
لتظل رحلة الهجرة تذكرنا كلما نسينا وتنبهنا إذا غفلنا أن بتآخي المهاجرين والأنصار كانت الانعطافة الأعظم في تاريخ العرب ليتحولوا من قبائل متناحرة ومن طاقات مبعثرة إلى كتلة من الخير وحزمة من النور وصلت إشعاعاتها إلى بحر الظلمات غربًا وإلى سور الصين شرقًا، وأن لا سبيل للأمة اليوم وقد أعياها التناحر والفرقة لتبلغ ذروة المجد إلا أن تعود إلى ما كان عليه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم، ليصدق في ذلك قول عمر رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”. وليصدق قول الشاعر:
مجد الجدود عزيز أن نضيعه مستعبدين وقد شادوه أحرارا
هيا بنا بني الإسلام نرجعه مهاجرين كما كانوا وأنصارا
أجبنا يا هلال محرم
إنها رحلة الهجرة وإنه هلال محرم الذي سيهل علينا بما عليه الأمة من بلاء وكدر، بعضه من صنع الأعداء وبعضه من صنع أبناء الإسلام أنفسهم. إنه هلال محرم الذي حلّ على الأمة 1444 مرة ليكون الهلال القريب هو الهلال الذي سيطلع علينا للمرة 1445. إنه الهلال الذي شهد وعايش محطات وظروفًا للأمة تراوحت بين العسر واليسر، بين النصر والهزيمة، بين الإقبال والإدبار، بين العز والذل. وما أصدق ما قال الشاعر وهو يخاطب هلال محرم:
ماذا سيروي في غد أحفادنا عنا أجبنا يا هلال محرم
أنت الذي شهد الجدود ومجدهم وشهدتنا والمجد جد محطم
سيقال لو أن المؤرخ منصف هذه الشعوب لمحمد لا تنتمي
رضيت من الإسلام ظاهر لفظه ومن العروبة لهجة المتكلم
وهي التي جنحت لأجنحة الكرى والدهر لم يفتأ عدو النوّم
كنا سنام الكون كنا هامهُ واليوم صرنا منه دون المنسم
صرنا عبيد المال باسم حضارة حمقاء لم تؤمن بغير الدرهم
صرنا عبيد الغيد أقصى همنا لو تحت أقدام الغواني نرتمي
حتى جعلنا الغانيات كواكبًا ومباذل الأخلاق رمز تقدم
وإذا استذلت أمة شهواتها جمدت فلم تنهض ولم تتقدم
هذي ليالينا وتلك حياتنا أوهام عرس في حقيقة مأتم
وإذا كنت يا هلال محرم قد شهدت أحوال الأمة المتقلبة بين العز والذل، والكرامة والمهانة، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة فإنني على يقين أنك لن تشهد بعد اليوم إلا صفحات مجد ومواقف عز تكتب تاريخ الأمة من جديد حتى إذا سألتك الأجيال القادمة فإنك ستجيبهم بكامل الثقة بما به يرفعون رؤوسهم ويفتخرون، بأنهم من أمة الإسلام أمة محمد ﷺ الذي نحن في ذكرى هجرته.
مرحله إعداد وتدريب
ها هي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة ومع إطلالة فجر العام الهجري الجديد 1445 حيث تعيش الأمة أمواجًا عاتية تضربها من كل جانب، وأيامًا سوداء داكنة ورعودًا تقصف من كل ناحية، ومع ذلك فإن الأمة ستخرج من كل هذا بسلام تنجو منه بإذن الله مثلما نجّى الله رسوله ﷺ رغم الكيد والخطر الذي كان يحيط به والمكر الذي كان يمكره له قومه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} آية 30 سورة الأنفال.
لكأن الله سبحانه بهذا الظرف الذي نمر به، فإنه يريد أن يصنع منا الجيل الذي سيبني دولة الإسلام القادمة لأن الأمواج الهادئة لا تصنع قبطانًا بارعًا، وأن السماء الصافية لا تصنع طيارًا ماهرًا، وأن الحياة بدون صعوبات لا تصنع أشخاصًا أقوياء ولا قادة عظماء، وإنما يُصنع هؤلاء وهم يقاومون الأمواج العاتية ويتدربون في أجواء بين الغيوم الداكنة والرعود القاصفة.
فمن وسط الأمواج العاتية والعواصف الهوجاء والسماء المتلبدة بالغيوم، ومن وسط كيد الأعداء وخيانة الزعماء وضلالة علماء، فإننا نعيش رحاب الهجرة الشريفة وبداية عام هجري جديد ونحن يغمرنا الأمل بل اليقين بأننا على أبواب خير قادم وفتح قريب لأمة الحبيب المهاجري محمد ﷺ. فلا تحزنوا إن الله معنا، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن شاء الله تعالى.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.