نص نايف .. شذرات من سيرة الياقوت !! * / اسماعيل أبو البندورة

نص نايف .. شذرات من سيرة الياقوت !!*
في نص البدء الذي كتبته عن أخي نايف يوما ، ختمت كلامي بالقول أن أخي نايف ياقوتة ” بمعنى انساني” دائم التألق والابهار ، ولذا أبدأ نصي هذا اليوم بحديث مجازي مسترسل عن الياقوت الفاخر القريب من النفس في لحظاته الأخرى ، وأسترسل في طيب الحديث عن الياقوت ، ففيه دائما ما يدعو الى الدهشة وامعان النظر ، وفيه ما يستحق التوقف عنده من جمال المعنى ، وألق المنظر، وبدعة الخاطر ، وثراء الماهيّة والجوهر .
أما كيف يصبح الشاعر- الانسان ياقوتا في الواقع والمجاز، فتلك قد تبدو لكم أملوحة ، أو أزعومة افتراضية ، أو شطحا من صنعنا ونحن نشرّق ونغرّب في الكلام ، أو يكون من باب هدر وفيض وهذر الكلام ، وهذا مما لا علاقة لنا به ولا نحبه ولا نرضاه ولا نقرّه في هذا المقام ، اذ أن المقام هو مقام البوح القروي الانساني الصادق الصافي البريء ، الذي لا يتملق الناس ويداهنهم جزافا ولا يوزع الكلام أشتاتا ، ويقدّم على طبق متواضع من الرقّة والشفافية والمحبة واللياقة ، لكي يبقى الكلم في مطرحه ، ومجاله الموضوعي المناسب ولا يذهب مع الريح .
وكيف لا يكون الشاعر نايف ياقوتا من طينة أخرى مؤنسنة ، مدّخرة وثمينة وباهرة، وهو قد أثرى هذه الديار بكل المعاني البديعة ، والأشعار الراقية ،والكلمات الجميلة ، والأفكار الضاجّة العميقة ، وزرع فيها بالشعور والاحساس المفعم المتعالي، ودقّة القول كل ألوان الألفة والأنسة ، ويكفي أنه كان عندما بدأ المشوار الشاق ، حييا متألقا مثل الياقوت ، ولا يزال لامعا وقيّما وأنيسا وثمين الدلالة ، يدعو الى الدهشة ، يحدث المفارقة ويشيع الفرح ، ويغني ببهجة للحياة ، وكأنها سيل من المتعة واللذاذات ، ولا يراها رزايا وعثرات .. وما نفع الياقوت اذا لم يكن بهذه المعاني والخاصيات والدلالات ؟
وما نفع التشبيه بالياقوت اذا لم يكن المعني به أمينا لمعدنه وطبيعته الأثيرة والمتواصلة دوما .
في مدينة الحصن بزغ ، نهض واستوى ودنا وتملّى ، وأسقط رأسه فيها ، واختط منها طريقين واحد الى اربد لتلقي العلم في مدرسة التل حيث كان مبدعا في الانشاء وبناء المعاني ، وشاعرا غرا مثابرا أدهش المعلمين الكبار . وطريق آخر الى فلسطين حيث أخوال أبيه ، عندما كانت الطريق قريبة اليها وبلا حدود . كان نايف ينحدر من سهل حوران الى سهل بيسان ممسكا بيد والده الرائح والغادي منها ، فأصبح بهذه المثابة ابنا للبلدين ، وبقيت تلك من مكوناته الياقوتية ومن مكنوناته الوجودية الأثيرة . بأن يكون اردني المولد وابنا لفلسطين ، ومشتاقا اليها وحاديا ومغنيا لها دائما .

وفي اربد أنشأ الأشعار والأفكار “والفوضى الخلاقة حتى” ، اذ بدا عربيا مشاكسا يحاول أن ينحر الرمال باحثا عن اللصوص الذين سرقوا ضوء القمر في ذلك الزمان الذي تروى سيرته بايجابية – في زمن العروبة اليقظة الحيّة الحافزة في تلك الفترة – مما أجبره على أن يتشرّد ويتغرّب ويصبح طريدا في وطنه وهو فتى غض الاهاب ، وكانت تلك من صفاته الياقوتية الكامنة ، ومكوناته الغريبة والغامضة ، وطبائعه الراقية ، بأن لا يداري ولا يصالح الشرّ والباطل ويبقى حارسا للضمير والوطن بدون ادعاء وتنفج .
كانت العروبة ولا تزال مكونا من مكونات عقله ونصّه الشعري وسردياته وقوله العمومي ، وداوم على ذلك حتى اللحظة ولكن برؤى ناقدة ومتجددة ، وبدا ذلك نزوعا عميقا فيه ، وعبر عنه في أكثر من مناسبة وقصيدة ، ووصل صوته الى بلاد عربية بعيدة ، وعرفوا منه سرّ ومعنى الياقوت الحوراني عندما يسري في غفلة عن السدود والحواجز ويصبح أنسنة وشعرا وجمالا وحبا للأمة .
أما الشعر فقد كان طريقه الى الناس والحياة ، اذ غنى لهم حتى الثمالة ، كتب للنخبة والعامّة ، وردد الناس أشعاره في كل مكان من هذا الوطن ، وعرفوا فيه المواطنة المرتبطة بالارض والأمة ، وصدق الكلام في زمن البدع والترهات ، وكان زمّارا فنانا متعاليا بامتياز اذ عزف الكلام وغناه على أرغول جرّ عليه سخط من لا يحبون الفن ولا يقدّرون الغناء ، ويضيّقون على المغني والفنان .
هل أقول قولا غريبا عن أخي نايف وأنا أروي هذه السيرة الياقوتية الموازية المختزلة المدهشة ، لا فأنا لا أزال اتمعن في هذا الانسان الكبير الودود الذي سميته ياقوتا مبهرا ، وهذا الجبل الذي يبقيك مسحورا وأنت تدور على جنباته ومن حوله من سفح الى سفح ، ومن وهدة لأخرى ، وأقول جبلا لأنني عاينت كصديق ورفيق ولا أزال أعاين وقفاته الشجاعة الرجولية في الحياة ، ووقفته الأخيرة مع المرض فأراه صامدا باسما متفهما للألم لا تهزه الريح حقا ولا الألم ، ولا تخيفه الأقدار وهو يعرف خفاياها وأسرارها ويدرك قرارها، ذلك أنه يعرف أنه أنشأ معاني متعددة للحياة واستقر فيها ، وأسس لما يبقيه راية في العقل والذاكرة ومثل الياقوت لمعانا وابهارا وجمالا ، وهذه هو سرّ الياقوت المتمثل في الشاعر الانسان في أفق تألقه ، وهذه بعض دلالاته ومعانيه .. وهذا هو نايف ابن البدو وابن فلسطين وابن تمام بطريقة موجزة . ويبقى الكثير لكي يقال في نص نايف الذي لا ينقطع ، وهذه مجرد بدايات وشذرات من السيرة ومداخل الى الكلام ، ونص نايف الانساني بالنسبة لي واسع ومديد ومفتوح ، وأراني دائما أمام كلام آخر جديد ، فهذا النايف الغالي هو انسان ودود ، وسيرة مفعمة بالمعاني وكتاب لا ينطوي !!
بعض عمرك ما لم تعشه
وما لم تمته
وما لم تقله
وما لا يقال …

• الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الشاعر نايف أبو عبيد في منتدى الرواد الكبار – عمان

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى