
#نسوية #الاقتصاد_البيئي التي يصعب إسكاتها
د. #أيوب_أبودية
النساء صنعن الوعي البيئي منذ فجر التاريخ، إذ كانت المرأة فاعلاً رئيسيًا في عملية الإنتاج، بدءا من إنتاج الإنسان عبر الولادة التي حيّرت الإنسان الأول، فوضعوا المرأة في مراتب اجتماعية عالية، واتخذوا من الآلهة الإناث محور عباداتهم، وصولا إلى إنتاج الغذاء والألبسة الدافئة والأدوات الحجرية. فلم تقتصر أهمية المرأة على الولادة، رغم أولوية: أمك ثم أمك ثم أمك، أو دورها داخل المنزل والعائلة الممتدة، بل انداح ليشمل المجتمع والحقل والسوق والتجارة والمعبد والصيد والأدوات الحرفية والفن.
لم تكن المرأة هامشية في الأنظمة الإنتاجية التقليدية، بل كانت في المجتمعات الزراعية الأولى مسؤولة عن جمع الحبوب، حفظ البذور، صناعة الغذاء والملابس، وخلق الأيدي العاملة، بل وابتكار أدوات العمل، ما جعلها رمزًا للخصوبة والاستمرارية، إلى أن جاءت العصور المظلمة فحبست المرأة في المنزل. وحين جاءت الثورات الصناعية واشتعلت الحربان العالميتان، عادت المرأة إلى الواجهة بوصفها ضرورة استراتيجية وأداة إنتاج؛ ثم ما لبث أن أُعيد سحبها من الواجهة بعد انتهاء الحرب، ولكن، رغم ذلك شعرت المرأة بأهميتها خلال تلك التجربة فشرعت تطالب بحقوقها الاقتصادية والسياسية.
وعادة ما تُروى قصة الحركة البيئية الحديثة من خلال النثر الهادئ والسرد الرائع لعالمة الأحياء الأميركية والكاتبة الشهيرة ريشيل كارسون عبر كتابها ” الربيع الصامت”، فضلا عن النشاط النسوي في الاحتجاجات الشرسة للدفاع عن الطبيعة والغابات، وعبر الأطر النظرية للمفكرات، فكانت النساء في مقدمة الداعمين للفكر البيئي، وأظهرن أن تدهور البيئة يرتبط بهياكل السلطة الاجتماعية وعدم المساواة والهيمنة، وجادلن أنه لا يمكن إنقاذ الكوكب دون السعي أيضًا لتحقيق العدالة لشعوبه كافة.
تُعزى الشرارة التي أشعلت لهيب الحركة البيئية المعاصرة إلى ريشل كارسون، التي كسر كتابها الصادر عام 1962، “الربيع الصامت”، صمتًا عميقًا، بدقة العالمة وشاعرية الأديبة؛ كشفت كارسون عن التأثير المميت للمبيدات الحشرية مثل الـDDT، ليس فقط على الحشرات، ولكن على شبكة الحياة بأكملها، بما في ذلك البشر. فواجهت هجمات شرسة من الصناعات الكيميائية، لكن شجاعتها الثابتة غيرت الوعي العام، مما أدى إلى حظر الـمبيد وإنشاء وكالة حماية البيئة الأمريكية. فقد أثبتت كارسون أن صوتًا واحدًا واضحًا، مدعومًا بالأدلة والاقتناع الأخلاقي، يمكنه تحدي المصالح الصناعية القوية وإيقاظ العالم.
كذلك تبنت هذا الإرث شخصيات أفريقية مثل وانجاري ماثاي من كينيا. بإدراكها أن صحة الأرض وتمكين شعبها هما شيء واحد، فأسست حركة الحزام الأخضر. كان هذا أكثر من مجرد مبادرة لزراعة الأشجار؛ بل تحدٍ ضد إزالة الغابات والإقصاء السياسي. فمن خلال تمكين النساء لاستعادة بيئاتهن المحلية، غرست ماثاي حركة من أجل الديمقراطية والسلام، والتي أصبحت من أجلها أول امرأة أفريقية تحصل على جائزة نوبل للسلام.
كما تجسد إيساتو سيسي من غامبيا الابتكار الشعبي، فأطلق عليها اسم “ملكة إعادة تدوير البلاستيك”، إذ حولت أزمة التلوث إلى فرصة، بتمكين النساء من جمع النفايات البلاستيكية وحياكتها إلى منتجات مربحة، فساهمن في تنظيف مجتمعهن إلى جانب تحقيق الاستقلال الاقتصادي. ومن أوغندا، ظهرت فانيسا ناكاتي بمنظور أفريقي جديد للبيئة، مؤكدة أن أزمة المناخ لا يمكن حلها إذا تم استبعاد أصوات الأكثر تأثرًا من الأضرار البيئية.
وفي الهند، بدأت العالمة والناشطة فاندانا شيفا مقاومة فكرية وعملية ضد الزراعة الصناعية. فمن خلال منظمتها ظهرت اتجاهات عالمية مماثلة تدافع عن سيادة البذور المحلية والتنوع البيولوجي عبر الفلسفة الإيكولوجية النسوية ونظرية للمعرفة، من حيث أنها لا ترى الطبيعة كمورد يجب استغلاله، ولكن ككيان حي يجب احترامه والانسجام معه.
وكان هذا المنظور نفسه أساسي لعمل وينونا لادوك من سكان أميركا الأصليين، وهي ناشطة بيئية واقتصادية تعمل بلا كلل لحماية الأراضي والتقاليد الأصلية. تقود لادوك منظمة “أكرم الأرض”، داعية للتنمية المستدامة وتطوير الطاقة المتجددة النظيفة في الأراضي القبلية، للدفاع عن وطن مقدس وأسلوب حياة متوازن استطاع أن يحافظ على التوازن البيئي لآلاف السنين في العالم الجديد.
وفي الوقت نفسه، تعمل الناشطة البيئية أوتوم بيلتيير من السكان الأصليين في كندا، وهي ناشطة في مجال المياه ، للتذكير بالواجب المقدس لحماية المياه؛ مصدر الحياة برمتها. وفي البرازيل، برزت مارينا سيلفا من مجتمعات مستخلصي المطاط في الأمازون لتصبح وزيرة البيئة في البلاد، وخاضت معركة سياسية لا هوادة فيها ضد القوى التي تدفع إلى إزالة الغابات. فبات يحمل صوتها سلطة شخص عاش على الخطوط الأمامية ضد التدمير البيئي، ويفهم العلاقة الحميمة بين بقاء الغابات المطيرة ومصير سكانها.
وما لبث أن استولى جيل جديد آخر على هذه المسؤولية، باستخدام الأدوات الرقمية والمنصات العالمية للمطالبة بإجراءات عاجلة، حيث تطور إضراب غريتا تونبرغ المدرسي إلى حركة “أيام الجمعة من أجل المستقبل” في جميع أنحاء العالم، حاشدة ملايين الشباب لتحدي جمود قادة العالم في اجتماعات الأمم المتحدة عن البيئة. واليوم تقود غريتا أسطول المساعدات لإنهاء الحصار على غزة.
وعبر العالم العربي، تقود النساء أيضًا الهجوم على القضايا البيئية الإقليمية الحرجة. ففي السودان، تنقل لينا ياسين علوم المناخ المعقدة إلى اللغة العربية، داعية من أجل العدالة المناخية. وفي مصر، تتناول ندى البرشومي النفايات الإلكترونية من خلال شركتها الناشئة، بينما تقوم شخصيات مثل حنان الحروب في فلسطين بدمج التعليم البيئي في التدريس، داعمة ثقافة الاستدامة من القاعدة، وفي الأردن تقود رزان زعيتر منظمة للزراعة والتشجير.
كذلك كُتبت العديد من كتب الثقافة البيئية للناشئة استجابة لجائزة أيوب أبودية العربية لثقافة البيئة للناشئة، منهن الروائية مجدولين أبو الرب التي فازت بالجائزة الأولى لعام 2025، والمعلمة رلى عباسي والطالبة سمر فتياني من مدارس راهبات الوردية وفازتا بالجائزة الثانية، كما شاركت أخريات بكتب مهمة كادت أن تصل إلى الفوز، مثل الكاتبتان روند الكفارنة وفرح أبو عطية، مما يدل على اهتمام نسوي أردني كبير بالبيئة .
كما يدعم هذا الطيف الواسع من النشاط البيئي العملي الأساسي فيلسوفات بيئيات. إذ قدمت نسوة مثل فال بلوموود وكارين ج. وارين الإطار الفكري الذي يجعل هذه النضالات منطقية. فانتقدن “وجهات نظر السيطرة ” البشرية المركزية” وكشفن منطق الهيمنة الذي يبرر استغلال كل من النساء والطبيعة. وتجادل الفيلسوفة أرييل صالح أن المعرفة المتجسدة للنساء والمجتمعات الأصلية تقدم المفتاح الأساسي لحل الأزمة البيئية. ومعًا، طورن الإيكولوجية النسوية، متحديات الثنائيات المدمرة وداعيات إلى أخلاقيات الرعاية والمسؤولية والترابط. لقد قدمن لنا فكرة أن البيئة ليست اهتمامًا متخصصًا، ولكنها مسألة أساسية للعدالة واستدامة مستقبل الحياة على الأرض.
إن سردية البيئية هو نشاط أنثوي وجهاد هدفه الكفاح من أجل كوكب صحي مرتبط بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. فمن رواية كارسون، إلى الأطر الفلسفية لبلوموود، والصيحات الشرسة لثونبرغ، والناشطات العربيات والأفريقيات، حرّكت هذه النسوة الاشكالية البيئية من مجرد حفظ للدرس البيئي إلى إعادة ترتيب أولويات معيشتنا. ألهمونا أن الاستدامة الحقيقية ليست حلًا تكنولوجيًا فقط، ولكنها صحوة ثقافية وأخلاقية أيضا تتطلب الاعتناء بالعالم بعيدا عن موقع التملك والوصاية، ولكن كأعضاء في مجتمع حيوي متنوع مترابط شاسع الأطراف يشكّل في مجموعه جوقة واحدة توجهنا نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنصافا، ويسمح بحياة مستدامة للأجيال القادمة.