نحن ملح هذه الأرض

نحن #ملح هذه #الأرض

محمد عاطف خمايسة


في البداية، وللتمهيد والتوضيح، فأنا أحدهم… لست معروفًا، ولا أحمل لقبًا يثير انتباه السامعين. أنا رقم “صفر” في الرتب الأكاديمية كما قال لي أحد الكبار يومًا، ورأيي لا يغيّر شيئًا في موازين السلطة ولا يُحسب في تقارير الاجتماعات.
لكنّي أكتب، لا لأقنع أحدًا، بل لأُسجّل موقفًا أمام الله والوطن، وأقول ما أراه بعين الإنسان الذي عاش التجربة لا من برجٍ عالٍ ولا من مكتبٍ مُكيّف.
أنا ابن ذلك الحداد البسيط – رحمه الله – الذي كان يعلّمني بين شرارات الحديد كيف يُطرق الحلم على نار الصبر، وكيف يولد الأمل من بين الطين والوجع، علمني ألا أصمت وإن تجاهل رسائلي أصحاب القرار لأن الله حباني بقلم ولسان .
تخرّجت في مرحلة البكالوريوس من كلية في شمال الأردن عام 2007، وما زلت أفتخر بها وبأيامها وبأساتذتها، لأنها كانت بداية الحكاية… حكاية شابٍّ آمن أن التعليم ليس ورقة تُعلّق، بل طريقٌ يقطع بالحجارة والعثرات وأن العدالة في السماء لا في أدراج صناع القرار.
أكتب اليوم عن التعليم العالي، عن واقعٍ لم نعد نعرف فيه الاتجاه، نُنشئ المراكز ونعقد المؤتمرات ونُطلق الشعارات، لكننا – في كثير من الأحيان – نسير في دوائر مغلقة. لا نعرف له بداية من نهاية .
تاهت البوصلة بين الكمّ والنوع، بين الأرقام والمضمون، بين ما يُقال على الورق وما يُمارَس على الأرض، بين الألقاب وما يسمى أبحاث والنتائج على أرض الواقع ، مئات الباحثين المتميزين إن لم يكونوا آلافا ولم نجد براءة اختراع واحدة تستحق أن تسمينا مخترعين ولا باحث واحد حاصل على نوبل.
نُبدع في إنشاء الأبنية وتعبيد الطرق داخل الحرم، لكن الطريق نحو الفكر لا يزال وعرًا، والطريق نحو الإبداع ما زال يحتاج من يعبّده بالفكر والحرية والصدق.
صرنا نحتفي بالألقاب أكثر من المحتوى، ونقيس النجاح بعدد الخريجين لا بنوع ما حملوه من فكرٍ ووعيٍ وحسٍّ وطني، وما زال الشباب يحلمون وأهلهم يستثمرون آلاف الدنانير بأحلام أبنائهم.في حين أنّ الجامعات وُجدت لتصنع إنسانًا قادرًا على التفكير لا التكرار، على البناء لا التجميل، وعلى السؤال لا التصفيق.
ما يؤلم أن ترى الطاقات تضيع، والعقول تُهمّش، والكفاءات تُركن في الزوايا لأنّها لا تُجيد لغة المجاملات ولا تتقن فنّ الصمت.، ونحن مصرون على أن تضيع الجهود في الاجتماعات، وتُهدر الطاقات في التبرير، ويبقى السؤال بلا جواب: إلى أين نسير؟
لسنا بحاجة إلى خطط جديدة بقدر حاجتنا إلى نية صادقة تعيد البوصلة إلى الشمال الحقيقي — إلى الطالب، إلى الرسالة، إلى الوطن.
فالتعليم العالي لم يُخلق ليكون هيكلًا إداريًا أو شعارًا موسميًا، بل ليكون ضمير أمة، ومحرّك نهضتها.
وربما لا يسمع أحد صوتي اليوم، لكنّ الوطن الذي علّمني الحروف يستحق أن أقولها:
لقد تعبنا من الدوران في ذات النقطة، ومن اختزال الفكر في الترتيب واللقب، وسأبقى ما حييت واحدا من أولئك الذين ما زالوا يؤمنون أن الجامعة ليست مبنى… بل فكرة.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى