نحن جيل النكسة

نحن جيل النكسة
د. قــدر الدغمـي

بداية .. جيل النكسة هو وصف ينطبق على كل مواليد حقبة الستينيات من القرن الماضي، عندما بدأت إسرائيل بتجريب واختبار قوتها العسكرية على العرب، حيث شهد هذا الجيل انهيارا لحلم المشروع القومي العروبي الوليد، بعد احتلال إسرائيل لأراضي الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء، وما تبعها من كوارث لاحقة، هذا الجيل ما زال حيا يحمل كل الآمال.
لكن .. نحن جيل لم يضحي بما هو أخلاقي أو إنساني في بناء علاقاته مع الآخر، جيل حاول ذاتيا نحت مساحة له في خرسانة المفاهيم كي يواكب ثورة التمدن، نحن الذين تنبض قلوبنا بدفء الرزانة ونعترف بالخطأ في حياتنا ولا نخشى من ثقافة الاعتذار، وكنا ننظر للخطأ مهما قل شأنه بأنه عار وفضيحة.
لقد كان عالمنا بسيط، وكانت أسئلتنا مبسّطة تشبه أيامنا البسيطة، وقناعتنا لا تولد بسهولة وكنا نصدق كل ما يقال بانبهار شديد خاصة من رجال الدين والسياسة والفكر، وكانت جل أحلامنا رومانسية، وكان العالم شبه غائبا عنا مقارنة مع جيل اليوم جيل “الروبوت، والذكاء الصناعي واليوتيوب، والفيسبوك، وتويتر، والواتس اب”، وتطبيقات التواصل الأخرى.
بالمناسبة رصيدنا من الصداقات من الجنس الآخر في بدايات البلوغ من أعمارنا لا يتجاوز واحدة أو اثنتين، وواحدة منهن قد تكون من أقاربنا أو جيراننا، وكانت لا تتعدى الاعجاب والحب المكتوم، لكن بعد أن ضاق بنا الحال، انكشف حجاب الزمن الجديد عنا بين ليلة وضحاها وأصبحنا نمارس مصطلح “شكرا على قبول الصداقة” وإذا بآلاف الصديقات الأقرب عطفا وتصريحا وجرأة أكثر من حبيباتنا تلك، ففضن علينا كرما بالغزل بصورنا.
آه ما أبخل الزمن الماضي، هل كنا نحتاج لكل هذه الأيام حتى نسمع غزلا يحرك احاسيسنا .؟ نحن جيل ولدنا في قلب الجفاف العاطفي، مع أن عواطفنا جياشة وأغلب أبناء ذاك الجيل ماتوا لأسباب غير القهر من الحكومات وتعسفها، ولهذه الأسباب فنحن نحتال على كل شيء كما احتلنا على الموت في وقت لم نبلغ أشدنا بعد.
نحن جيل واعيٍ وجدنا قواسم مشتركة بيننا مع الشيوخ والمراهقين، لذلك نعرف أحكام الصلاة والصوم وآداب الطريق واحترام الجار ونحفظ سيرة بني هلال، تماما كما نعرف كلمات أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبده، ونتذوق الأدب والفن والجمال، ونجالس الحكماء في مجالس الرجال نهارا، ونجوب شوارع المدينة ليلا بحثا عن مغامرة أو مجازفة باهظة الثمن.
اليوم ترى أحدنا يستخدم رأس سبابته وحيدا على شاشة هاتفه وببطء شديد، ومع ذلك نحن لا نجهل تقنية عصر الاتصال، لدرجة أنه يمكن لأحدنا أن يقنع خمس من العابرات ” الفيسبوكيات ” في جلسة واحدة بأنه جاد في حبهن، نحن جيل التجارب القاسية، وقد تركنا البطالة تبحث عن عمل لها قبل أن ترتخي بطوننا، أجسادنا اعياها بعض الوهن، وحول أعيننا هالات سوداء وبعض التجاعيد لكننا نحمل ذاكرة لا تخون.
كنا جيل مسيس بالفطرة، وكنا نهيم بقراءة الشعر الثوري وسماع اشعار أبي القاسم الشابي ومظفر النواب ومحمود درويش وغيرهم، ونتيجة للأجواء العامة التي عصفت بالمنطقة، حيث كانت شعارات القومية العربية والحرية والوحدة والتحرر وتحرير فلسطين احلاما تداعب مشاعرنا وتدغدغ عواطفنا، مع أن جيلنا يوصف بجيل النكسة والهزائم والحروب والأزمات المتلاحقة.
لكن مع كل أنواع الاستبداد والقهر الذي مورس علينا، نحن لسنا محبطين وما زلنا نقارع الحياة، فرغم كل ما عايشناه من سمات لصكوك الوصاية وملاحقها من إقصاء وتهميش، وما عانيناه جراء هيمنة المتنفذين والوصوليين، إلا أننا لم نهتم يوما لانقطاع الكهرباء وشح الخبز ورداءة الطريق، وكنا نمارس حياتنا اليومية دون تذمر ولم نسطر يوما حرفا واحدا في جلد الوطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى