نحن اليوم فائض بشري .. هل جُعِلنا هكذا أم جَعلنا أنفسنا هكذا أم خُلقننا في سياق العبرة وضرب الأمثال؟
هذا سؤال لا أفترض له فرضية وأبني عليها، وليس مطروحا أمام من يعتقد ذلك. ولا لعلك الكلام بل للتأمل. لست قادرا ولا غيري ربما على الاجابة عليه بأقل من مجلد يجمع التاريخ القديم بالحديث ليتشكل مفهوم التغيير. والديموغرافيا القديمة بالحديثة ليتشكل مفهومي العيش والتعايش. ويجمع الصحراء التي يعرف سكانها القساوة والنار ولا يعرفون الحدود، مع البستان المحدود وحلاوة الجنان، ليتشكل مفهوم الوطن. ويجمع الفكر الايدولوجي ومساقه والفكر الليبرالي القديم والحديث ليتشكل مفهوم الحرية. ويجمع الرسالات السماوية التي هبطت عندنا على وجه التخصيص مع الديانات الوضعية التي أخرجتها الحضاره ليتشكل مفهوم الدين الوسيلة والدين الغاية. ويجمع المنتوج التاريخي للاستسلام للطغبان مع منتوج تحديه ليتشكل مفهوم الثورة. وثنائيات أخرى تُجمع كلها في بوتقة الفلسفة المتحررة التي تحاكي العقل بعيدا عن قيود العين القاصرة وحس الحواس المحدود. وبهذا فلعل أفضل تعريف للإنسان بأنه الحيوان المفكر، وأفضل تعريف للذكاء بأنه القدرة على ربط الأشياء، وأصاب من قال أن الانسان ابن بيئته ويا ليته اتبعها بكلمة (ومُغَيرها).
الماضي والحاضر والمستقبل محطات سيرورة تاريخية حتمية. تحكمها العلمية، لا تتوقف ولا تنتظر من يتوقف. والإنسان وسيلة التغيير وهدفه في هذه السيرورة والقادر على ضبط وجهتها. ولا يكون هذا التغيير إلا بمفهوم التطوير والتطور، ولا يكون الضحية إلا من هو خارج المفهوم. لم يكن الحاضر يوما هدفا للإنسان الواعي، ولا الماضي هدفا حين كان حاضرا. فنحن نتكلم عن الحاضر في كلا الحالتين، بينما المستقبل هو الوجهة والهدف، والمستقبل هذا يفقد وصفه ووجوده عندما لا يكون الحاضر منصة للتقدم نحو المستقبل كعنصر ثابت لا ينتهي. فهناك فرق كبير بين العودة للماضي وبين عِبر الماضي. ومن لم يتطلع للمستقبل من الشعوب يتحول الى فائض بشري يبحث عن منحدر يقبع فيه إلى أن يُستهلك.
لعل أسوأ ما ارتكبناه بحق أنفسنا في العصر الحديث بعفوية من الثقافة الموروثة هو الهروب من التحديات وخدمة الهروب بتزييف التاريخ وتلبيس الباطل ثوب الحق ضمن تغييب واع لثقافة البحث حتى كوَّنا مسلمات زائفه نلتزم بها وندافع عنها على غرار تزييف أسلافنا القبليين في الجاهلية لواقعهم خدمة لطبيعة المنظومة القبلية واحتياجاتها التي تَوجت الشعر والشعراء للحشد فأصبحت صناعة الكلام منتوجنا العقيم وما زلنا حكرا لها، ولم يكن الشيخ إلا في صلب تطوير هذه الصناعة.
وأصبح اليوم الكلام المعزول عن الواقع يَستخدمَ القيمَ والمثل استخداما يُفرِغها من مضمونها ويلغي ضرورة وجودها حين تَحتلُ الكلمةُ الفعلَ وتحلُ محله وتُعبِّرُ عن تحقيقه ولا سبب لتلك الثقافة سوى دفاع الضعيف عن النفس في بيئة معادية للحياه دفاعا انهزاميا بعيدا عن المواجهة الإيجابية، أهلت لسياسة القطيع ذئبوياً تارة ونعجوياً تارة أخرى، والمحصلة هي القطيع بمتطلبه المحدود. وأصبحنا أسرى لثقافة الخوف والانهزام والكذب والنفاق والاتكال والخضوع نبحث عن أب شيخ طاعم كاسي لا يجلدنا، ولا نبحث عن أنفسنا، وأسأنا كما يقال استخدام عبارة ” حسبي الله ونعم الوكيل ” حين ننقل بموجبها ملفات قضايانا من حضننا الى حضن السماء…
لا يختلف الحاكم العربي عن الشعب كثيرا فقد خرج من نفس الثقافة والمعاناة. ولكن الظروف جعلته كبشأ فليس هو أكثر من شيخ قطيع مهزوم ومأزوم لا يقوم الا بدور المرياع يتقدم القطيع ويتبع الحمار المتدرب على الطريق. أما القطيع فهكذا ولد في الحظيرة وطنا له وقيم. وكلمة السر هي “التغيير” لنيل الحرية والتحرير والنهوض. فنحن نتحدث عن واقع حياة نعيشها تقوم على أسس لا تقبل ولا تتحمل أكثر من بناء فاسد. فهي مصممة على هذا وإلى هذا. ولا تَغْيير إلا ب “ثورة راشده ” تقوم على مفاهيم مختلفة جدا تنسف تلك الأسس وتحل محلها.
الثورة الراشدة التي يقودها العظماء والتي تؤدي للهدف هي الخيار بصرف النظر عن التضحيات. ذلك أن تغيير الثقافة المهزومة وتثبيت الخلاقة منها سيبقى عصيا علينا طالما أن قوة الشد العكسي أكبر من قوة الشد الإيجابي الذي لا يحمل بدوره من الوسائل ما يؤهل للتغيير الذي يقدم البديل. إلا أن مفهوم الثورة المعاصرة نحو التغيير يقوم على الديمقراطية، والديمقراطية هي ثقافة مغايرة لثقافتنا الموروثة ونمط حياتها التي اعتادت عليها شعوبنا، فشعوبنا وإن نادت بالديمقراطية فليس لقناعة ولا قبول. ومن هنا كان المرتجى الخائب لفرضها وتقبلها قائما على منة يمنحها ويسوقها شيخ حاكم يمتلك الافق الفكري والوعي التاريخي مع نفحة من التربية الوطنية، بتفعيله الأطر الشكلية الديمقراطية القائمة تدريجيا بحيث يهضمها المواطن. ولم يهبنا الله لهذه اللحظة بهذا الشيخ. وبقيت توعية الشعب بالديمقراطية التي تضمن مصالحه وتحميها وتحقق له الأمان وتحقيق ذاته في مأزق ومحل حرب غير متكافئة بين قوة الانظمة وضعف النخبة.
والثورة كأساس للتغيير لا تنتهي ومقتلها في توقفها، فإن توقفت فقدت معناها وتحولت لضدها. لقد قام العرب بأكبر وأعظم ثورة سياسية اجتماعية أخلاقية في تاريخ البشرية سلاحها الفكر والإيمان بالتغيير الذي يبدأ بتغيير المفاهيم عند الفرد تدريجيا، لكنها توقفت فانقلبت لضدها على هذه الأمه. فالاسلام جاء هبة من الله القدير ثورة للتغير في وسط كان في غاية التخلف والضياع والفقر وفقدان البوصلة والانعزال. فأسيء الى طبيعتها من أحفادها حين عز عليهم فهمها وتسمروا عند أسهلها وغلافها وتركوا مضمونها الثوري الديناميكي ونسوا بأنها رسالة. فابتعدوا عن مواصلتها إلى الأمام حتى أصبحت عبئا عليهم وهم لا يعلمون، وهذا الفهم الخاطئ يجب أن ينتهي.
تمر الأحداث الجسام على أوطاننا وشعوبنا، ودرجنا على تسمية الحدث الأخير في مسلسل الاحداث المتواصلة بأنه منعطف تاريخي، بينما التاريخ قافلة حمولتها الأساسية منعطفات، ومنعطفنا التاريخي (بالمعنى الزمني historical) هو في عوالق ثقافتنا الموروثة بحكم بيئتنا التي نشأنا فيها وتجاوبنا لضغوطاتها، وفي ثقافتنا المكتسبة بحكم الضغوطات أيضا وكلاهما ينخر في وعينا وتربيتنا الوطنية وبسلامة حاضرنا ومستقبلنا. فتاريخنا كله ما زال معطوفا.
نعلم بان الخلل البيئي لا تقابله الشعوب الواعية بالخضوع لشروط البيئة فهل نكون عندما لا نواجه البيئة ونخضع لشروطها أمام خلل في الجين أم خلل في ثقافة ارادة التحدي. إن التجربة التاريخية تؤكد الأخيرة، فأعظم الحضارات في التاريخ صنعها العرب حين نزحوا تحت ضغط الصحراء من الجزيرة الى بلاد ما بين الرافدين وصولا لبلاد كنعان كإسم لبناته العرب، حيث البيئة مواتيه والتحديات غائبه. ولم يختلف عالمان اثنان غربيان في أن هذه الأقوام التي شيدت تلك الحضارات في الحقبة بين الألف الخامسة قبل الميلاد الى ما قبل الألف الأولى، قد خرجت من الجزيرة باستثناء السومريين.
فالخضوع للأمر الواقع والعزوف عن التحدي والطبيعة القبلية كلها سمات تلاحقنا لليوم وتفتك بنا، والتحديات هي التحديات سواء كانت طبيعية أو بفعل بشري. فإما مواجهتها وإما الانحناء أمامها بطريقة ما. والطريقة ال ما عند العرب هي إما التعايش معها بمنتوج صناعة الكلام وإما بالهروب. إنهم لا يميلون الى ما يعرف بالعقلية الغربية ب ال challenge. أما القبلية فتعني الحرب على مفاهيم الدولة والوطن وغياب العدالة الاجتماعية والقيم المثلى والمثل.. وقد استنسخت أنظمتنا سلوك طبيعتها في أسوأ وأسقط مثال بشعار ” القطر أولا ” كوسيلة للتنصل من مسئولياتها الوطنية والقومية إزاء فلسطين والهروب من مواجهة التحدي الذي يخصها ويستهدف دولها وشعوبها. ولو كانت هذه الأنظمة وهذه الشعوب تؤمن بالمواجهة للدفاع عن نفسها لرفعت شعار “فلسطين أولا” ومارسته. فهذا هو المنعطف التاريخي الحقيقي الذي يواجهها اليوم مع كل أسبابه ( تاريخي بمعنى العِظم والتأثير historic) كتحد وجودي وأخلاقي، والباقي تفاصيل.
كاتب وباحث عربي