
كذبة ناصعة البياض
المكان: مادبا،
وهي بلدة صغيرة الى الجنوب من العاصمة الاردنية عمان.
الزمان: قبل ثمانية وثلاثين عاماً مرّت.
المشهد: أسرة اردنية ضالعة في الفقر تقطن بيتا طينيّا ، أب موغل في الشيخوخة ، أم وأربعة أطفال .. أنا أكبرهم ، دجاج مرعوب من صوت الطلقات ، بحيث صار تفريق الديك من الدجاجة أمراً مستحيلاً ، مع الاحترام لنابليون بونابرت.
أمّي تكذب … نعم إنها تكذب … أمامي وأمام أخوتي . . أمام الجميع… يا للهول !!!
لم يكن الطفل آنذاك ، وربّما حتى الآن ، يستوعب الكذب الذي مارسته الأم على رؤوس الأشهاد والعباد .. كذب واضح جليّ كالفضيحة… كطعنة خنجر.. كسكتة قلبية .
فالأم تعرف تماماً – كما نعرف أخوتي وأنا – بأنّ جارنا أبو يونس فدائي مدجّج ، وكنا نراه كل يوم خارجا أو عائدا إلى بيته الترابي المستأجر الملاصق لبيتنا وهو يتأبط الكلاشنكوف
( أخمس حديد ) وتتهدّل من خواصره بضع قنابل يدوية متعددة الأشكال.
أمّي كانت تكذب تماما حينما أجابت العسكري بالنفي ، لمّا سألها إذا ما كان جارنا أبو يونس ينتمي للمنظمات الفدائية ، لا بل أنّ أمّي أفرطت ، دون أن يطلب منها العسكري ذلك ، في حلف الأيمان الغليظة التي تفيد بأنّ جارنا أبو يونس ، ليس له في هذه السواليف وأنه (زلمه بده يعيش ع باب الله ) .
أمّي كانت تكذب دون أن يرف لها ضمير … يا للهول!!!
لم أنبس ببنت شفة خلال الحوار مع العسكري ، لكنّي بعد أن هدأ حوش الدار ، وعدنا نفرّق بسهولة بين الديك والدجاجة ، خرجت ، أنا ، مكتظا بالغضب والخذلان ، لأنّ أمي كانت تكذب بهذه الصفاقة والثقة .
بقيت أسير على غير هدى في السهول المحيطة بالمدينة وحيدا وحزينا حتى الموت .
عدت إلى البيت في الهزيع قبل الأخير من الليل مهدودا من التعب والخيبة.
باب البيت كان مفتوحاً ( كالعادة ) ، أبي العجوز وأخوتي نيام ، ثمّة ضوء ينوس من طرف الغرفة ، اقتربت… كانت أمي تركع بخشوع أمام صورة السيدة العذراء ، الشمعة في طريقها الى الزوال … سمعت أمّي تصلي بصوت مسموع وتطلب المغفرة من السيدة العذراء لأنها كذبت وحلفت الأيمان الغليظة (والكذب خطيئة مميتة كما علّمتنا الأم ) ، وسمعتها تستعطف العذراء وتبرّر فعلتها :
– يا عذرا يا شفيعة .. أنا كذبت مشان عياله الزغار ، خفت يوخذوه وما يظلّ إلهم والي !!!!
أقتربت من أمي بهدوء
اقتربت أكثر
وأكثر
كانت ثمّة دمعة عملاقة تتلألأ بين أجفان السيدة العذراء .
من كتابي(لماذا تركت الحمار وحيدا)الصادر عام2008