موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

الحرية متطلب أساسي لتحقيق الفردانية والتميز وتحقيق الذات، لهذا فطر الله كل المخلوقات على القدرة على اتخاذ القرار بوحي من المصلحة الذاتية باستقلال عن الآخرين، لذلك باتت الحرية سمة أساسية من سمات الحياة.
ولما كان الإنسان أرقى المخلوقات، فهو الأكثر محبة لحريته وتمسكا بها، لذا توصل الحقوقيون الى أن العقوبة الأكثر ردعا لمرتكبي الظلم، هي حجز الحرية أي السجن.
دائما ما تُختزَن القيم في مكنونات المرء مرتبطة مع نقيضها، لكي يمكن التعرف عليها، فبالضد تعرف الأضداد، لذا كانت العبودية شكلا متطرفا للحرية المسلوبة، ومورس الإستعباد على مر العصور كأحد أشكال القهر من بشر لآخرين، يُسخّرونهم لخدمتهم وتنفيذ أوامرهم قسرا وبلا اختيار.
لذلك ظل البشر في سعي دائب لتحقيق الغلبة لكي يحتفظوا بحريتهم أولا، وإن حققوا ذلك وصار لديهم فائض من القوة، يتطور طموحهم لكي يستعبدوا الآخرين الأضعف منهم، فأصبح ذلك أبرز أشكال الصراعات البشرية بين المجتمعات، وظلت دائما معايير قوة الدول هي التي تحدد سجالات التحرر والعبودية، فكان العرف المتبع في الإمبراطوريات القديمة كالإغريق والرومان والفرس والصينيين، أن الشعوب المقهورة تفقد حريتها، فيُستعبد رجالها وتسترقُّ نساؤها، وظل ذلك قائما حتى القرن التاسع عشر، حينما ظهرت في أوروبا مفاهيم الديموقراطية، حيث خلفت الدول الحديثة نظم الأباطرة والقياصرة والأكاسرة فطبقت تلك المفاهيم على شعوبها، لكنها أبقت استعباد الغير إنما بصورة منمقة، فبعد احتلالها عسكريا، وبديلا عن السخرة فرضت على الأمم المقهورة الإذلال والإفقار والتخلف، لنهب خيراتها وإبقائها مستهلكة لبضائعها، ثم طورت ذلك في القرن العشرين، فسحبت جيوشها ومنحت تلك (المستعمرات) استقلالا صوريا، إذ استبدلت بالإحتلال العسكري إحتلالا ثقافيا وإقتصاديا، وربطت حكامها بخيط مربوط بكفها لكي لا يُحلّق بعيداً.
هذه هي الصورة التي وصل إليها الإنسان اليوم.. فهل يعقل أن ذلك هو مراد الله من خلقه مخيراً سعيدا بحريته وبامتلاكه إرادته؟.
هل يقبل الإله العادل الذي منح البشر الحواس والعقل والنعم والأرزاق، بلا تمييز بينهم… هل يقبل أن يكون بعضهم عبيداً لبعض؟.
لقد أعطاهم الحواس ليدركوا وجوده، والعقل ليعرفوه، والنعم ليشكروه، والأرزاق لكي لايطلبوها من غيره، وكل ذلك ليعبدوه، أن العبادة لله تلغي العبودية لغيره، وهي التي تحقق المساواة بين البشر، وذلك عندما يقف في الصلاة، الأمير والفقير، والقوي والضعيف، والقاهر والمقهور، جميعا صفا واحدا، وجنبا الى جنب، عابدين لله، مسبحين بحمده، طالبين غفرانه..عندها لا يمكن للضعيف أن يخشى بطش القوي، ولا ذي السلطان، فكلهم في العبودية لله سواء، وفي الخضوع لإرادته متماثلون، لأنهم يعلمون أن خثرة دم بحجة رأس دبوس في دماغ امرئ ترديه .
ومن هنا كانت العبادة واقية للنفس البشرية عن العبودية لبشر آخرين، ماهم عنهم متميزين خلقة ولا قدرات، بل هم مكرهون على هذه العبودية قهرا.
لذلك سمى الله الذين يعبدونه عبادا، تكريما لهم وتمييزا عن العبيد الذين هم مستعبدون للبشر.
فعباد الرحمن أحرار في الدنيا، لأن صلتهم المباشرة بالإله القاهر لكل مخلوقاته، فلا يقبلون الخضوع لإرادة غيره إلا بما أراده منهم، ووفق ما شرعه وألزم كل البشر به بلا محاباة ولا تمييز.
وحريتهم هي الحرية الحقيقية لأن عبادتهم لله محض اختيار، بينما العبودية محض قهر.
وحريتهم في اختيار الإيمان هي عن قناعة وجدانية، بدليل أن المؤمن لا يمكن أن يعود عن إيمانه مهما ناله ضيم أو تعرض لإغراءات، فهو يصبغ شخصيته بصبغة الله، ويصوغ كيانه بحسب فطرة الله.
هي الحرية الحقيقية لأنها تقود المرء لكل أفعال الخير، وتقف حائلا أمام الشهوات الدافعة الى الشرور، وهي ليست كتلك الحرية المزورة المسماة “الحريات الديمقراطية”، والتي هي قيود وسلاسل ينقاد بها البشر الى ما يشاء أصحاب المال والنفوذ، ويهدفون من خلالها الى الكسب والربح.
نستخلص أن الحرية المنضبطة التي لا تتعدى على حريات الآخرين، لا يحققها إلا الإيمان، وتضبطها العبادة فتثمر سموا روحيا وصلاحا أخلاقيا.
أما العقائد الزائغة والنظم الوضعية، فهي تحقق الحرية بصورها السلبية أكثر من الإيجابية، مثل الإنفلات والتعدي على حريات الآخرين، وبالنتيجة يصبح المجتمع قطيعا منساقا وفق مصالح المتنفذين..أي عودة للعبوديات القديمة لكن بأثواب مزركشة للتمويه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى