
#موقف_عمومي
د. #هاشم_غرايبه
جاءتني إحدى المراجعات تطلب علاجا لأحد أضراسها، ولما كان الإجراء بحاجة الى تخدير، ورأت المحقنة في يدي، جحظت عيناها وقالت ما هذا !؟ هل مازلتم تستعملون الإبر؟ .
قلت بهدوء: وهل تعرفين طريقة أخرى؟، ردت: لقد تقدم الطب كثيرا وأصبح التخدير باستخدام أشعة الليزر!. سألتها عن مصدر هذه المعلومة، فقالت من الإنترنت.
طولت بالي عليها، فشرحت لها أنه لغاية مساء الأمس لم يرد أي اختراع جديد فيما يتعلق بهذا الشأن، رغم أن هنالك تطويرات تقنية في الآلية والمواد، إلا أن المحقنة (السيرنج) ما زالت هي الوسيلة الأساسية منذ أكثر من مائة عام، أما ما ينشر في غير المجلات العلمية فنحن نعتبره كلام جرايد ودعايات تجارية.
رغم أن وسائط المعلومات المتعددة لها فضل لا ينكر في نشر المعرفة، وتعريف الناس بأمور كانت غامضة أو مقتصرة على النخب المثقفة أو المتخصصة، إلا أن هنالك سلبيات كثيرة رافقت هذه الموجة المعرفية.
أهم هذه السلبيات هي الإختراق التجاري للعلم، فمن غير المعقول أن يتاح للناس من كل حدب وصوب الدخول الى الشبكة العالمية مجانا أو بكلفة زهيدة، ولا يكون وراء ذلك مصالح ومرابح لمالكي هذه الشبكة ومنظمي شؤونها، ولا يمكن أن يصدق حتى الأبله أن هدف هؤلاء المستثمرين في هذه الشبكة الهائلة الإتساع، هو خدمة الإنسانية وتعريف الناس بحقائق الأشياء ونشر المعرفة.
لا شك أن وراء ذلك تسويقا تجاريا وترويجا لمنتجات تجارية، فنحن نشاهد كيف تتسابق الشركات على حجز المواقع الجاذبة للإنتباه على جنبات الشوارع وفي الميادين العامة لتعليق إعلاناتها عليها، وكم تتكبد من كلف ليراها بضعة آلاف من المارة… فكيف إن طالعها عشرات بل مئات الملايين وعبر العالم كله!؟.
بعد انفراد الولايات المتحدة بالسيادة على العالم، وهي حالة تحدث لأول مرة في التاريخ، تسارعت خطوات الإحتكاريين الذين يوجهون ساستها حسب مصالحهم في جني المكاسب، فأنشأوا مفهوم العولمة الذي يعني فتح الحدود وإزالة الحواجز أمام وصولهم الى المستهلك في شتى بقاع العالم، فكانت الفكرة الشيطانية بربط كل فرد مهما كان موقعه بالشبكة العنكبوتية، والتي هي إسم على مسمى، فهي تمسك بتلابيب كل من يدخلها فلا يستطيع منها فكاكا.
ليسأل أي منا نفسه: ما هو أكثر شيء من وسائل الحياة العصرية يخشى انقطاعه؟..سيجد أن الإجابة بلا شك هي: الانترنت.
نحن من حيث لا ندري واقعون في شبكة ترصد تحركاتنا وتتجسس على أدق خصوصيتنا، تتعرف على رغباتنا، تغريك بتطبيقات مجانية، لكنها محشوة بدعايات تجارية.
هنالك شريط مصور نشره أحد محترفي (الهاكرز) يبين كيف أن شخصا كان معه هاتفان أحدهما مغلق والآخر ليس به شريحة، وقام بجولة في واشنطن وأثبت أن الهاتفين رصدا حركته بدليل أنه خلالها زار مطعما للبيتزا ، ولما فتحهما أرسلا له دعاية لمطاعم البيتزا في المنطقة، مما يدل على أنهما كانا يسجلان جولته.
كثيرا من المعلومات علمي في ظاهره لكنه تجاري، ومن أكثرها مربحا المعلومات الطبية، فقد درج الكثيرون على استشارة (جوجل) لتوفير كشفية الطبيب، لكنهم لا يعلمون أنهم قد يقعون في أخطاء نتيجة توجيههم لأدوية معينة أو لاستعمال أجهزة أو مواد.
وقد يقع في أحابيلهم حتى الأطباء نتيجة إقناعهم بشراء أجهزة أو أدوات لا تؤدي الفعالية المطلوبة.
في النتيجة يتبين لنا أن ذروة التقدم والتطور المعاصر، هوالترويج والتسويق، حتى أنهم قد جعلوه علما يدرس في الجامعات، لكنه في جوهره خداع وتدليس، وهو ما حرّمه الشرع باعتباره مفسدة التجارة الأكبر.

