موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

استوقفتني ملاحظة أحد زوار الأردن من السياح الأجانب، وفكرت فيها ملياً، فهو يستغرب التناقض في أخلاق الأردني، حيث أنه يستقبلك بحفاوة وترحيب، ويكرمك بلا حدود إن دخلت بيته، وإن احتجت مساعدته يهب لنجدتك بكل شهامة…لكن إن كان في سيارته فهو مختلف تماما: لا يسمح لك بتجاوزه ويغلق عليك الطريق إن كنت خلفه، ولا يصبر عليك لحظة إن كنت أمامه، ولو حاولت أن تدخل الشارع بسيارتك من شارع جانبي من أمامه يستقتل في سبيل منعك ..والخلاصة فهو يعتبر كل من في الشارع خصوما ألداء، وهم بتقديره لا يجيدون السواقة ولا يعرفون قوانينها.
هذه الحالة متفشية، وهي أحدى الأمراض المجتمعية التي تعيق النهضة المأمولة، لكنها ليست حكرا على الأردنيين، بل تنطبق على كل الشعوب العربية، وقد يكون سببها القديم هو الصدمة التي أحدثتها النقلة التقنية المفاجئة بالتحول من امتطاء الدواب الى ركوب السيارة.
فقد ظلت البشرية آلاف السنين لا تعرف وسائل للنقل والإنتقال إلا الدواب، وكل قوم حسب بيئته وقدرته الإقتصادية، بعض الأمم الأكثر تقدما توصلت الى صنع العربات التي تجرها الخيول كوسيلة مواصلات أو الثيران للنقل، لكن العرب في جزيرتهم كانت وسيلتهم الرئيسة هي الجِمال، فيما كانت الخيول لغايات القتال، وأما العربات فلم تكن ملائمة مع الطرق الصحراوية الرملية، لذلك ظلت محدودة الإستعمال ومحصورة في الطبقة الميسورة التي تعيش في المدن.
بدأت النهضة الصناعية في أوروبا واختراع السيارة في القرن الثامن عشر، وتطورت بسرعة، وأصبحت في بداية القرن العشرين متاحة للعامة، في تلك الأثناء كان العرب يغُطّون في سبات، فلم يكونوا مساهمين في التقدم الحضاري، ولا حتى مواكبين لأنباء التطور التقني، ليفاجأوا بالسيارة عن طريق المستعمرين الأوروبيين.
فانتقلوا بين عشية وضحاها من ظهر الفرس والناقة الى مقود القيادة في السيارة، من غير تمهيد انتقالي، ولا شك أن لكل من الحالتين تعامل مختلف، فالدابة كائن حي يسير بتبصر وتقدير ذاتي للطريق فيمكنه تجنب العوائق، ولا يحتاج إلا الى توجيه عند تقاطع الطرق، وأما السيارة فلا يمكنها شيء من ذلك لذا فتحتاج الى يقظة تامة ودائمة من سائقها.
من هنا نلاحظ حالة التوتر التي تصيب السائق، والتي هي سبب هذا الإنقلاب في الطباع.
لذلك فهذه الظاهرة ترجع الى أسباب ثلاثة: الأول بنيوي وهو هذه الصدمة الحضارية، لكنها ستظل مؤثرة في جيل او جيلين قادمة على الأكثر، حتى تتعافى منها شعوبنا.
والثاني: موروث من قيم البداوة والعشائرية التفاخرية، وهي التي تحدد أن من يتقدمك هو الأعلى قدرا أو أرفع مكانة، لذلك لا تتيح للآخر (والذي هو بنظرك أدنى منك) ذلك، ولو دخل الشارع قبلك.
كما تَحُول قيمة (اذا بلغ الفطام لنا صبي..تخر له الجبابر ساجدينا) أن تسمح لغيرك أن يتطاول على حقك في الشارع وفي غيره من الملكيات المشتركة، فكلها لك ورثتها كابرا عن كابر.
أما الثالث: فهو عدم فهم الفواصل بين الحق الشخصي وحقوق الغير، وحدود حرية الفرد ومدى تداخلها مع حريات الآخرين، وهذه مردّها الى الثقافة التي رسخها النظام السياسي، في تصوير المرافق العامة على أنه من مكرمات الزعيم، فهي تنتمي له، وليست ملكيات عامة ولكل فرد فيها حصة.
فيما تلك الحدود والفواصل واضحة لا لبس فيها في الأنظمة الغربية (الديمقراطية)، والولاء هو للمجتمع والملكيات العامة وليس للحاكم، وترعرع الصغار عليها فباتت نمط حياة عام، وثقافة سائدة.
لذلك تجد مجتمعاتنا العربية تتشابه جميعها في ظاهرة التنمر على الملكيات العامة، والتطاول على سلطة القانون، وعدم احترام حقوق الآخرين، بل التباهي بمدى التجاوز على كل تلك المفاهيم، لأن الأنظمة السياسية تفتقر أصلا الى الشرعية الشعبية، لذلك تعتمد على المؤلفة قلوبهم كأعمدة للنظام، من أشخاص اشترت ولاءهم بإقطاعهم محسوبيات، ليشتروا أتباعا لهم مناطقيا أو عشائريا، وهؤلاء مميزون بأن لهم سندا وظهرا في الدولة، مما يغريهم بالخروج على القانون مطمئنين الى عدم المساءلة.
لذلك أصبح عدم احترام القوانين والتطاول على الملكيات العامة تفاخرا وتبجحا، ودلالة على قوة السند.
ولما كان الطريق ملكية عامة فقد سرت عليه ثقافة التطاول.
لذلك قيل إن أصعب الأمراض ما كان في الرأس، فإن فسد فسد الجسد كله.

مقالات ذات صلة
اعلان
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى