موقف عمومي

#موقف_عمومي
د. هاشم غرايبه
في لحظة ما انتبهت إلى أن أنظار جميع من كانوا في الشارع قد تحولت الى نقطة معينة، لا إراديا تحولت بنظري الى حيث كانوا يحدقون، فإذا بامرأة تفتح باب سيارتها لتصعد بها، لاحظت أنها تلبس تنورة قصيرة ضيقة، فأدركت أن الجميع ينتظر لحظة رؤية أن تنجح في دفع ساقيها معا الى داخل السيارة لتتجنب انحسار تنورتها، طبعا لم اعرف ما مدى نجاحها في ذلك لأنني حولت نظري بعيدا في اللحظة التالية، لكنني أدركت النتيجة من تعليقات المتابعين، فقد تمتم أحد كبار السن منهم: “الله يجيرنا”، فيما رمى شاب لصاحبه من بعيد تعليقا سمجا.
الملابس تأتي في الأهمية عند البشر ثانيا بعد الطعام، وقد كانت تكريما إلهيا خاصا ببني آدم “يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ” [الأعراف:26]، حيث خلق كل الحيوانات مكسوة بغطاء يقيها من الأذى ومن تقلبات الطقس، وهو ثابت دائم، لكن الإنسان خلقه عاريا إنما هداه عن طريق العقل الى اختيار ما يغطي جسمه، وأوجد فيه خصلة الحياء، فلا يتقبل أي إنسان عاقل فكرة العري، ويشعر بالحرج إن انكشف جزء من جسده بسبب غير مقصود.
مع تطور الإنسان اكتسب اللباس مفاهيم أخرى غير الستر والحماية، فأصبح زينة ومظاهر يستدل بها على رفعة المكانة، فبات من السهل تمييز ذوي المكانة العالية من ملابسهم التي تبذل عناية فائقة في اختيارها، فيما يرتدي الفقراء والعامة ملابس بسيطة لا جمال فيها.
مع التطور القبلي الى قوميات وشعوب، أصبح للزي دلالات الخصوصية القومية، فبات كل شعب يتميز بزي قومي خاص، يمكن تمييزه منه.
لكن التطورات السلبية فاقت الإيجابية، فقد أستأثرت الملابس بالإهتمام الأكبر بعد إذ أصبحت المظاهر مهمة بل ومتقدمة في غالب الأحيان على الجوهر، وأصبح التزين بها حاجة فاقت الحاجة الى الدفء والستر، ولما كان هناك ضعف إنساني عند المرأة تجاه كل ما يضفي مظهرا جذابا عليها، لذلك استحوذت الأزياء النسائيه على معظم اهتمام مصممي وصانعي الأزياء ومنذ عصور سحيقة.
ظلت السمة الغالبة هي الطابع المحتشم، فلم يحدث خلال الحقب التاريخية الطويلة أن لجأ مصممو الأزياء الى تعمد كشف أجزاء من جسد المرأة، وبقي تغطية سائر جسد المرأة سائدا منذ فجر التاريخ وحتى القرن التاسع عشر، بل اعتبر الرقي في جعل لباسها طبقات متعددة، ومربوطة بإحكام بحيث لو انحسرت طبقة ظل الجسد مغطى بغيرها، ومصممة بشكل لا يظهر تضاريس الجسد، وكان كشف شيء من الجسد محصورا بأزياء الإماء والغانيات.
بدأ الإنقلاب على تلك المفاهيم في أمريكا بعيد استقلالها، ثم انتقلت العدوى خارجها، بعد ان اكتشف الرأسماليون سوقا مربحة في الأزياء وأدوات الزينة، ثم توسعت التجارة لتشمل الجنس والإغراء، وبذلك أصبح جسد المرأة استثمارا مربحا، فابتدعوا فكرة مسابقة ملكات الجمال، والاستعراضات الحركية (فرق الرقص) المعتمدة على كشف أكبر مساحة ممكنة من جسد المرأة، وعروض الأزياء لتشجيع شراء ملابس جديدة لكل موسم، واستغل جسد المرأة في الإعلانات للمنتجات التجارية وللمباريات وحتى الانتخابات السياسية، وبدأت التصاميم تكشف أجزاء من الجسد شيئا فشيئا، وشجع ذلك نشر الثقافة العلمانية والتلاعب بقيمها لخدمة مصالح الرأسماليين، وخاصة في أن التحرر الليبرالي يبدأ بالتخلص من التقاليد الاجتماعية المتوارثة، واقتصار الأخلاق على القيم الجمالية المعنوية وليس على التصرفات.
ومما فتح الأبواب مشرعة للمفسدين، التعديل الذي أدخلته البروتستانتية على المسيحية، بأنه للخلاص من جهنم، يكفي العماد باسم المسيح عليه السلام ومن غير حاجة للعمل الصالح، ومهما عمل المرء من خطايا فالإعتراف أمام الكاهن يمحوها.
لكن أخبث ما ابتدعه هؤلاء هي التقليعة (الموضة)، والتي أدت الى استعباد دائم بمشتريات جديدة في كل موسم، إذ لم يعد مقبولا استعمال ملابس الموسم الماضي.
لا شك أن تلك السيدة عندما ارتدت تنورتها القصيرة الضيقة تلك، كانت تدرك كم ستسبب لها حرجا عند الصعود والنزول من السيارة، ناهيك عن صعوبة قيادة السيارة بحذائها ذي الكعب العالي.
لكنها تستحمل كل ذلك من أجل ألاّ يقال أنها (old fashion) لا تواكب الموضة!.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى