مواجع الرحيل وعبثية الترحال/ د. سمير أيوب

مواجع الرحيل وعبثية الترحال
ثرثرات في الحب

لِما يَشِفُّ من مشاعرِها وما تَكْتُمه ، إيقاعٌ مًتمردُ النبرةِ ، لا يُشْبِهُ سِواه . وصخبٌ يُلازمُ أزمانَ معارجِهِ القَولية .الكثيرُ من تضاريسِ جَسدِها المُكتَنِزِ ناطقٌ بِفصاحة . تَمْنَحً نسائمُ حضورِها ، رمزياتٍ مُتَحَرِّكَةٍ لكل ما قد يُلاِمسُ ذاك الحضور .
كانت على بُعدِ همسةِ عِطرٍ مني ، حينَ إستأنَفَتُ هذا الحوارَ معها . لكنّي لم أتوقّع أبدا أن أخجل إلى هذا الحد ، وأنا أقارنُ فلسفةَ عقلي ، بِتِلقائيّةِ أحاسيسِ تلك المرأة ، ظلّت نسائمُها ، تُلاحِقُ عقلي ، تارةً مَشياً وأخرى هرولة .
قالت مُباغِتَة وكأنها تكمل حوارا يتمدد في دهاليزها : …… ولا أذكرُ أنّي تَحررتُ من أسئلةِ جسدي ، وإستبدادِ عقلي . بعضُ طغيانهما غيرَ مفهومٍ لي . ويحصد الكثيرَ من هَدأةِ لَيْلي . أفقدُ أحيانا توازني بينهما . فأُلقِي بأسلحتي ، لأعيشَ إنسانيّةَ قلبي ، بعيداً عن القوّةِ الّتي بها يغتصبُ عقلي ظاهر تصرفاتي .
وأكْمَلَتْ دون أن تنظُرَ بإتجاهي ، أو أن تنتظر مني تعقيبا : لي
قلبانِ مُشاغِبانِ يا سيدي . ليسا من فصيلٍ واحد . قلبٌ في عقلي ، وعقلٌ في قلبيَ الآخر . تمورُ فيهما نسائمٌ وعواصِف . واحدٌ منهما يكرهُ مواجعَ الرحيلِ وعَبثيةِ الترحال . والآخرُ ، مُصرٌّعلى خوضِ التجريب . في البدايات ، لم أكُن منحازةً لأيٍّ مِنهما . وقَفْتُ مُتفرجةً . تَرَكْتُ عقلي وقلبي على غارِبَيْهِما .
هذان القلبانِ المُستَبدّانِ . نجَحَتْ إشكالياتُ أفخاخِهِما الساحرةِ ، في خَلْخَلَةِ طُمأنينَتي ، فيما أعيش من قُصاصاتٍ واقعية . ولكن مع معطياتِ عَدِّ السنينَ وتراكُماتِها ، تَجاوزَتِ القُدرةُ القُصوى لإحتمالِي ، أبعادَ ما قد مضى من عُمرٍ ، وباتَتِ الضروراتُ حَتمياتٍ . فَلَمْ يَعُدْ مُمْكِناً تجنّبَ خوضَ هذه المعركة . وإن كنتُ أدركُ ، أن لا تَكافُؤ بين ضروراتِ القلبين وحَتمياتِهما.
وتابَعَث وأصابعها تعبث بشئ من شعرها الغجري : لأعيشَ نفسي بِمَواريثِها ، وروحي بِقِيَمِها ، وفُتاتَ جسدي المُغَيَّبِ ، رفَعتُ أعلاماً ناصعةَ البياض . وقررتُ التَّحللَ منَ الكثيرِ من أسبابِيَ المعقولةِ ، لأنها عاقرٌ . وقررتُ الإنصاتَ لِوخزِ قلبي ، الذي باتَ وحدُه ، هو اليقينُ المُمْكِن .
إلتَفتَتْ إليَّ مُعاتبةً بشئٍ من سُخرية مُشاغبة : لا تَبتسم يا شيخي شاكّاً أو شامتاً أو مُستنكرا . أُطمأنُك أنَّ قلبيَ حُرٌّ ، وعقليَ هو الآخر حرٌّ . ولا يُرْغِمهما على الخضوع ، إلا هَوى الحالةِ وجدلها الباطني .
إلتَقَطَتْ بِفِطنةٍ تُحسَدُ عليها ، طيفَ تساؤُلٍ كان يتجولُ بين عينيَّ وشفتي ، وتابَعَتْ قولَها :
بمنطقِ الإستثنائيةِ المُجْحِف ، حشدتُ الكثيرَ من كشاكيلِ عقلي وقَلَقِه النَّقدِي ، قبلَ أن أطرقَ سَمْعَكَ في هذا البوح ، عَلَّني أنجحُ في مُلامسةِ شيء من فهمِكَ لما أُعاني . من أجل هذا أنا هنا الآن معك دون أن تتوقَّعَ ، ولَو شبهَ إحتمالٍ للإيقاعِ بها .
قلت بلا ملامحٍ تشي بانحياز : سيدتي ، أنتِ إمرأةٌ تُرابيةَ المنابع والمراجع والمواطئ والمصب . تعيشين فراغا حِسيّاً مُتوالِدا ، حضورُه مُستبِدٌّ . وإن تسامى رأسُكِ في معارج السماء ، وإمتلأت رئتاك بالكثيرِ من جُغرافيا الهواء .
قاطعتني وهي تُحاول ان تَكظِمَ غيظاَ تنامى على صفحاتِ وجهها : بل أنا يا شيخي ، بوقائعِ حياتي إنسانةٌ جدا . تستدعي كلَّ ما تعرفه عن الفرح ، وتسخره في هندسة قلبها وتنميقه ، بِفقه التطرف ومحرضاته . مُبتلاةٌ ليلَ نهار بِصمتٍ ، مُمْتَلِئَةٌ خوابيهِ حَدَّ الحَوافِ ، مكتظةٌ لو كنت تعلم ، بِيُفطٍ تُبعثرُني كلَّ ليلةٍ ، بعد أن تُلاعِبَ مسارِبَ أحلامي ومَواجعَها ، من عيونِ الليلِ وهيَ تَرْحَلْ ، تراتيلُ ام كلثوم ، دِفءُ عطرٍ مشاغبٌ بِقسوة ، شمعةٌ يُراقِصُ وهجُها مَرايا سريري ، خصلاتٌ من شعريَ الغجريِّ المجنونِ تُداغِبُ شَفَتَي . كل ذلك وأنا أدركُ أنَّ مداراتُ عطشي ومَنْطِقَهُ الهامسُ ، لن يرويها ويفتنها ، إلا الكثير من تَوابلِ مطرٍ يُسافر إليَّ مُحرِّضاً ، بلا انقطاعٍ وبلا تعب ، بحثا عن مُستَنبتاتيَ الخصبةِ ، سواءٌ ما قبلَ شباطٍ او ما بعد نيسان ، وبالطبعِ ما بينهما من حضورٍ لا ينقطع .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى