#ماجد_دودين
اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل… ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل … ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت… وكم مطمئن إليها خذلت… فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها … وقد ذمها خالقها … دار نفاد لا دار إخلاد … ودار عبور لا دار حبور … ودار فناء لا دار بقاء … ودار انصرام لا دار دوام … جديدها يبلى وملكها يفنى … وعزيزها يذل وكثيرها يقل … ودها يموت وخيرها يفوت.
سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب
قال أحد العلماء (ركعتان أصليهما أحب إليّ من الجنة بما فيها …
فقيل له هذا خطأ.
فقال: دعونا من كلامكم رأيت الجنة رضا نفسي، وركعتين أصليهما رضا ربي، ورضاء ربي أحبي إليَّ من رضا نفسي)
إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب الله عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب الله عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
إن الآمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تحت التراب تبلى وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد.
وفي ذلك عباد الله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات
لا تبت على غير وصية، وإن كنت من جسمك في صحة، ومن عمرك في فسحة، فلا تأمن من هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات
جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده أنْ لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.
وحقيق بالعاقل أن يعد نفسه من الموتى ويراها من أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب قال الله جل وعلا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} وقال تبارك وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقال – صلى الله عليه وسلم – ” الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ”.
إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فأطلبوا نعيما لا موت فيه.
وَلَمْ يَمْرُرْ بِهِ يَوْمٌ فَظِيْعٌ أَشَدَّ عَلَيهِ مِن يَوْمِ الحِمَامِ
وَيَوْمُ الحَشْرِ أَفْظَعُ مِنْهُ هَولاً … إِذَا وَقَفَ الخَلائِقِ بِالمَقَامِ
فَكَمْ مِنْ ظَالِمِ يَبْقَى ذَليلاً … وَمَظْلُومٍ تَشَمَّرَ لِلْخِصَامِ
وَشَخْصٍ كَانَ في الدُّنْيَا فَقِيْرًا … تَبَوَّأ مَنْزِلَ النُّجْبِ الكِرَامِ
وَعَفْوُ اللهِ أَوْسَعُ كُلِّ شَيءٍ … تَعَالَى الله خَلاقُ الأَنَامِ
وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بَابٍ مُؤمِّلاً … فما خَيَّبَ المَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمِّل
وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْر صَابرٍ … وَقُلْ وَاعِظًا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّملْمُلِ
مَعْ الصَّبْر إِحْدَى الحُسْنَينِ مُنَاكِ أَوْ … مَنَايَا كِرَامِ فَاْصبِرِي وَتَحَمَّلِ
وَدَاو لِسُقْمِ القَلْبِ وَاعْمُرْ خَرَابَهُ … بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمِلُ
ومن فوائد الذكر أيضا ما ذكره ابن القيم رحمه الله: أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وأن الذكر سد بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق عمل من الأعمال، كان الذكر سدا في تلك الطريق، وأن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، وأن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها، وأن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلوا الذكر لله عز وجل.
قال تبارك وتعالى في المنافقين: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} وأن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، وأنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورا في الآخرة، وأن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، وأن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، قال وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر.
مَا دُمْتَ تَقْدِرْ فَأَكْثَرْ ذِكْرِ خَالِقنَا … وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
فَسَوْفَ تَنْدمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ … مَا فِيْهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَوَاتِ
قال ابن القيم رحمه الله: وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة: يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام.
ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد هو قوت القلب وروحه ويجلي صداه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويحدث الأنس ويزيل الوحشة. ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويسعد الذاكر ويسعد به جليسه ويؤمن من الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب لإظلال الله العبد يوم الحشر الأكبر في ظل عرشه. وأنه سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، وأنه أيسر العبادات وهو من أجلها وأفضلها، وأنه غراس الجنة، وأن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره، وأن دوام الذكر للرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشة ومعاده.
إِذَا رُمْتَ أَنْ تُحْظَي بِعِزِّ وَرِفْعَةٍ … بِدُنْيَاكَ وَالأَخْرَى لِنَيْل السَّعَادَةِ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ … وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ
قال في حادي الأرواح: ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما إيجادهم له رفعوا رءوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم شمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو أضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليل أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا آلامه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متالف.
فيا عجبًا من سفيه في صورة حكيم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس باع جنة عرضها الأرض والسموات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة أخرها الخراب والبوار.
وأبكارًا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم.
وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والمرجان والزبرجد ويوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد.
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ويتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد.
فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة وما أعد لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفي لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر علم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع.
وأن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الرب الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتمتعون وبأنواع الثمار يتفكهون {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام إلا أفراد من العباد
أَكْدَحْ لِنَفْسكَ قَبْلَ الموتِ في مَهَلٍ … وَلا تَكُنْ جَاهِلاً في الحَقِّ مُرْتابًا
إِنْ المَنِيَّة مَورُودٌ مَنَاهِلُها … لا بُدَّ مِنْهَا وَلَو عُمِّرتَ أَحْقابًا
وَفي اللَّيَالِي وفي الأَيَّامِ تَجْربةٌ … يَزْدادُ فِيْهَا أَولُوا الأَلبَابِ أَلبابًا
بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِير الصّلْبُ مُنْحَنيًا … وَالشَّعرُ بَعْدَ سَوادٍ كَانَ قَدْ شَابَا
يُفْنِي النُفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ … لَيلٌ سَريعٌ وَشَمْسٌ كَرُّها دَابَا
لِمُسْتَقرٍ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرِةٍ … حَتَّى يَعُودَ شُهودُ النَّاسِ غِيابَا
وَمَن تعَاقِرهُ الأَيَّامُ تُبْدِلُهُ … بالجارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا
خَلَّوا بُروَجًا وَأَوْطَانًا مُشَيَّدةً … وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا
فَيَالَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَربَا … كُسِيْتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْي أَثْوَابَا
بِمُوحِشٍ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلّتُهُ … وَلَيْسَ مَن حَلَّهُ مِن غَيْبَةٍ آبَا
كَمْ مِن مَهِيْبٍ عَظِيْمِ المُلْكِ مُتَّخِذٍ … دُونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابَا
وأَضْحَى ذَليلاً صَغِيرَ الشَّأنِ مُنْفَرِدا … وَمَا يُرَى عِنْدَهُ في القَبْرِ بَوَّابَا
وَقَبْلكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكوا … فَأَضْرَبَ الحيُّ عَن ذِيْ النَّأْي إِضرابَا
قال بعضهم يبوخ نفسه ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت وانفلت وتخلصت تتركين هيهات هيهات، أما تعلمين أن الموت موعدك والقبر بيتك والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك اعملي يا نفس بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار حزن ونكد وكبد ونصب ولغب وهموم لدار سرور وأفراح ونعيم وخلود وهناء اعملي قبل طي الصحيفة اخرجي من الدنيا خروج الأتقياء الأحرار قبل أن تخرجي خروج الأشقياء على الاضطرار ولا تفرحي بما يساعد من زهرة الدنيا فرب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر وويل لمن له الويل ثم لا يشعر، يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة