من كلّ بستان زهرة – 87 –

من كلّ بستان زهرة – 87 –

#ماجد_دودين

قال ابن رجب: “كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتُها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب؛ إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر وسماه اللهَ {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: ٤٥] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: ٤٦].

وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. وقال ابن مسعود: نعمَ المجلس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة، وتُرجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر. وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر. وقال: مجلس الذكر محياة العلم، ويحدث في القلب الخشوع. والقلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.

مقالات ذات صلة

بذكرِ الله ترتاحُ القلوبُ … ودنيانا بذِكراه تطيبُ

وأما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب الدنيا وذمها والتزهيد فيها، وذكر فضل الجنة ومدحها والترغيب فيها، وذكر النار وأهوالها والترهيب منها، وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم”.

***************

قيل للحسن: إن فلانًا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟! ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء؛ ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟!:

من ذا الذي ما ساءَ قطْ … ومن له الحسنى فقطْ؟

***************

لقد خلق الله الإنس والجن وأخرجهم إلى هذه الحياة المؤقتة لغاية عظيمة هي عبادته سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]. وهذا هو تكليفهم في الدنيا لينتقلوا بعده إلى دار الآخرة ليلقَوا الجزاء على هذا التكليف.

فمِن المكلَّفين من عمل لهذه الغاية فعبد الله تعالى وحده لا شريك له ففاز في الدنيا والآخرة، ومنهم من زاغ عن هذه الغاية وعبد غير الله تبارك وتعالى؛ لأسباب اكتسبها حتى آلت به إلى الشقاء.

***************

قال ابن مسعود: “من كان منكم متأسياً فليتأسَ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوباً، وأعمَقَها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقوَمها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم”.

***************

قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:”ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه، وأبدلَه مكانَه فرجًا قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها؟ فقال بلى، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها”. الراوي: عبدالله بن مسعود | المحدث: الألباني | المصدر: السلسلة الصحيحة – الصفحة أو الرقم: 199 | خلاصة حكم المحدث: صحيح.

الدُّعاءُ هو العِبادةُ، ويُعبِّرُ عن امتلاءِ قَلْبِ المؤمنِ بالثِّقةِ في اللهِ سُبحانه، وقد علَّمَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأوقاتَ المفضَّلةَ في الدُّعاءِ، كما علَّمَنا كيفيَّةَ الدُّعاءِ بجوامعِ الكلِمِ وبصِيَغٍ مخصوصةٍ في أوقاتٍ معيَّنةٍ.

***************

قال ابن القيّم: “والعبادة تجمع أصلين: غاية الحبّ وغاية الذّلّ والخضوع … فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبّة لم تكن عابداً له حتّى تكون محبّا خاضعاً”.

***************

قال ابن الجوزي: ” والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع والقلوب تتهافت على محبته. فتدبرت السبب فوجدته السريرة، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة. فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فاللهَ الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر”.

***************

قال صلى الله عليه وسلّم:” – تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ.” الراوي: أبو هريرة | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري”.

أشْقَى النَّاسِ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَه هَواهُ وشَهوَتَه، فيَكونُ عَمَلُه كُلُّه لِتَحصيلِ هذه الشَّهوةِ وطَلَبِها؛ فهو تارِكٌ مَا خُلِقَ لِأجْلِه، وهو عِبادةُ اللهِ تَعالى، مُتمَسِّكٌ بتَحصيلِ شَهَواتِه بغَيرِ رِضا اللهِ تَعالى، فهو مُضَيِّعٌ لِآخِرَتِه بدُنياه. وأسعَدُ الناسِ مَن عاشَ للهِ عَزَّ وجَلَّ، طالِبًا رِضاه، وما أعَدَّه سُبحانَه لِلصَّالِحينَ مِن عِبادِه.

***************

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) (رواه مسلم).

“المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد” (شرح النووي على مسلم).

” قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة: أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة” (فيض القدير، للمناوي).

***************

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: ٢٠] قال: يقول الله: (ابنَ آدم، تفرّغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك) رواه الترمذي (٤/ ٦٤٢)، والحاكم (٢/ ٤٨١)، وهو صحيح.

***************

“قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب”. مدارج السالكين، لابن القيم

***************

كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما خاض مع أهل الإفك قال الصديق رضي الله عنه: (والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال) فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: ٢٢].

قال أبو بكر: بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً (رواه البخاري (٤/ ١٧٧٤) ومسلم (٤/ ٢١٢٩).

***************

مما يدل على فضل العلم بشريعة الله تعالى: أن الله لم يأمر بطلب الزيادة إلا من العلم، فقال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤]. قال ابن حجر: “وقوله عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدارُ ذلك على التفسير والحديث والفقه”

فتح الباري (١/ ١٤١).

***************

قال ابن القيم: ” العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم”.

***************

قال ابن القيم: “لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين”.

***************

قال ابن القيم: ” أشرف ما في الآخرة وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة، وهذا هو الغاية التي تُطلب لذاتها، وإنما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة إذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ودخل الآخرة وإلا فهو في الدنيا، وإن شعر بذلك بعض الشعور فليس شعوره به كاملاً”.

***************

قال الغزالي: ” اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خُلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مخلوق لها. وكلُّ ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرِحَ به.. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة. وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف الملك لكان أعظم فرحاً. وليس موجوداً أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته؛ فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته ” (كيمياء السعادة، للغزالي).

***************

عذابُه فيك عذْبُ … وبُعدُه عنك قربُ

وأنت عندي كروحي … بل أنتَ منها أحبُّ

حسبي من الحُب أني … لما تُحب أحب

***************

قال صلى الله عليه وسلّم: “حُبِّبَ إليَّ منَ الدُّنيا، النساءُ، والطِّيبُ، وجُعِلَ قرةُ عيني في الصلاةِ”

الراوي: أنس بن مالك | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح النسائي – الصفحة أو الرقم: 3939 | خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح – التخريج: أخرجه النسائي (3939) واللفظ له، وأحمد (13079)

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أعبَدَ النَّاسِ وأتْقاهم للهِ عزَّ وجلَّ؛ فلم يكُنْ يُحِبُّ مِن الدُّنيا إلَّا الطَّيِّبَ، فأحَبَّ أزواجَه، وأحَبَّ الرَّوائحَ الطَّيِّبةَ؛ مِن مِسْكٍ وغيرِه، وحَثَّ عليه ورغَّبَ فيه، كما يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في هذا الحديثِ: “حُبِّبَ إليَّ مِن الدُّنيا”، أي: نَصيبي منها وما أتحصَّلُ عليه مِن مَتاعِها: “النِّساءُ”، أي: زَوْجاتُه رَضِي اللهُ عَنهنَّ، وهنَّ مِن أَوْلى مَن يدخُلُ في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: “خيرُ مَتاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ”، “والطِّيبُ”، أي: العُطورُ ونَحوُها ممَّا يُدَّهَنُ به، “وجُعِلَ قُرَّةُ عَيْني في الصَّلاةِ”، وهذا بيانٌ لعظيمِ محبَّتِه لها؛ وذلكَ لِما فيها مِن القُرْبِ مِن المولَى عزَّ وجلَّ؛ فلا شيءَ يُسعِدُه ويُدخِلُ عليه السُّرورَ بمِثْلِ ما تُدخِلُ عليه الصَّلاةُ؛ فقُرَّةُ العينِ يُعبَّرُ بها عنِ المَسرَّةِ ورؤيةِ ما يُحِبُّه الإنسانُ.

***************

قال بعض الصالحين: ” من عرف الله اتَّسَع عليه كلُّ ضيق”.

***************

القرآن الكريم هو خير الحديث، وخير الكلام الذي لو {اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨]. وهو القول الذي أعيى الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأخرس الخطباء، ولم يكن بنظم شاعر، ولا سجع كاهن، ولا بقول إنس ولا جن، بل هو كلام المعبود الحق، الخالق للخلق سبحانه وتعالى.

***************

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى