من ضغط على مسدس البراوننغ أمام شيراتون القاهرة!
كتب … علي سعادة
عندما قتل وجد في جيبه الأيمن #مسدس من نوع “سميث أند واسن” مفرغ من #الرصاص لم يستخدمه، ووجد أيضا نحو 60 جنيه مصريا، وورقة تشرح أن هذا المبلغ “مياومات” له، إضافة إلى غليون وعلبة تبغ.
ووجدت في جيوبه ورقة بيضاء فيها أسماء لأشخاص إلى جانب كل اسم مبلغ مالي، وكان أكبر مبلغ في القائمة هو 11 دينارا، تبين لاحقا أنها قائمة #ديون، وأنه كان مديونا لبعض #المزارعين الذين أحضروا سمادا لمزرعته في المفرق، وكان يرسل لهم إعانة من راتبه الشهري، بحسب مصادر متعددة.
قبل 4 أعوام تقريبا تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو، حول النطق بالحكم على #قتلة_الشهيد_وصفي_التل، بدت الجلسة كما لو كانت حفل استقبال معد بعناية، المتهمون يرتدون بدلات وربطات عنق وكانوا في غاية الأناقة.
الجميع في القاعة كانوا يتبادلون الابتسامات والضحكات، كأنهم يعرفون الحكم مسبقا، ولم يتبق سوى الاحتفال ب”البراءة” المتوجة بضغط وتهديد من الرئيس الليبي معمر القذافي، ومن الرئيس المصري محمد أنور السادات شخصيا.
وسيتبادل المتهمون، بعد صدور الحكم ب”البراءة”، التهاني مع هيئة الدفاع التي جاءت من ثلاث دول عربية، ومع أناس غير معروفين حضروا الجلسة، واستندت المحكمة في قرار “البراءة” بأن الرصاصة “القاتلة” لم تنطلق من الأسلحة التي ضبطت مع المتهمين، وهو ما استفز السادات قبلها بيوم حين قراء في صحيفة “الأهرام” حول هذا الأمر فطلب بوقف المحاكمة بتدخل شخصي من القذافي.
وسيطلق سراح المتهمين الأربعة فورا، ليمكثوا في القاهرة عدة أشهر، إلى أن اختفوا من المشهد بشكل كامل، بعد أن وضعوا في طائرة توجهت إلى دمشق .
وسط روايات تقول بأنه تمت تصفيتهم على مراحل، من قبل الأجهزة الأمنية الأردنية، وعلى يد صبري البنا (أبو نضال)، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، فيما تقول روايات أن أحدهم على الأقل لا يزال على قيد الحياة، وتقول روايات أن المخطط الأول لها والمتهم الأول والعقل المدبر للعملية وقائد المجموعة توفي في عام 1991، فيما قتل في بيروت عام 1982 أحد المنفذين الذي وجه رصاص مسدسه من نوع ” #براونينغ ” إلى التل.
معظم ما كتب عن #وصفي_التل أردنيا وعربيا، لم يخرج عن إطار العواطف واللغة الخطابية، أو الثرثرة ضمن سياقات مختلفة، مع أو ضد، والتي تبدو لغة مقبولة لحظة الحدث، لكنها بعد نحو 50 عاما تحتاج إلى مخزون من المعلومات والوثائق والشهادات حتى نؤسس لقضية وشهادة متكاملة للتاريخ دون شتائم ولعنات وبكاء ووعود بالثأر، وكلام ليل يمحوه كلام النهار.
وصفي التل، لمحبيه ولخصومه، كان شخصية استثنائية، جدلية، أردنيا وفلسطينيا وعربيا، هذه الاستثنائية ربما ظلمت الرجل، وكانت سببا في موته الغامض، وفي تفرق دمه بين القبائل (الدول) وفي تعدد الروايات وغموض بعضها أحيانا.
باستثناء أحداث أيلول عام 1970 وهي فترة غير موثقة وحمالة أوجه، وكل ما يروى عنها عبر شهود عيان بعضهم يتحدث بناء على ما سمعه ولم يشاهده.
لا يوجد أي مصدر موثوق، أردنيا أو فلسطينيا، يؤكد أن الرجل كان عنصريا ضيق الأفق، أو بأنه كان أسير الوطنية والقطرية على حساب قضايا الأمة، كان رجلا مسكونا، مثل أبناء وبنات جيله، بالهموم العربية إلى حد تعرضه للموت في معارك “جيش الإنقاذ ” ضد تهويد فلسطين، كان حلمه، كما كان يقول دائما للمقربين منه، أن يموت وهو يقاتل.
شخصية كاريزميا لم يشهد الأردن لها مثيل، لا يزال حاضرا في الذاكرة والمخيلة، سياسي ورجل دولة واقعي وعقلاني، رئيس وزراء دستوري، بمعنى إصراره على ممارسة دوره كرئيس وزراء بصلاحيات كاملة كما هو في الدستور، تتبع له كل الأجهزة التنفيذية في الدولة.
شخصية جدلية، مباشر، يفكر بصوت عال، لا يجامل في قناعاته الوطنية والقومية، الأمور عنده دائما صواب أو خطأ، وأحيانا الخطأ قد يتقرب من الخيانة الوطنية، وفقا لبعض الأقوال المنسوبة له.
ليس ثمة منطقة محايدة، أو رمادية بين الحقيقة والوهم، بين الوطنية والخيانة، جراءته في طرح أفكاره، وكرهه للفساد، لفتت إليه أنظار الملك الحسين بن طلال في مرحلة مبكرة من حياته السياسية.
من المؤكد أن وصفي التل ولد في بغداد عام 1921، رغم أن بعض الدراسات تقول بأنه ولد عام 1919، والده شاعر الأردن الأول، مصطفى وهبي التل (عرار) شغل عدة مناصب في الدولة، كان أخرها متصرفا للواء البلقاء، ومكث في منصبه هذا أقل من أربعة أشهر إذ عُزل، واقتيد إلى سجن المحطة في عمان حيث قضى نحو سبعين يوما، بعد أن تصاعد الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء آنذاك، أم والدة وصفي فهي سيدة كردية عراقية.
التحق وصفي التل بـ”الجامعة الأميركية” ببيروت وحصل على البكالوريوس في العلوم عام 1941، بعد تخرجه عمل مدرسا للكيمياء والفيزياء، لكن تركيبته لم تكن تتوافق مع التدريس فاستقال بعد نحو عام ليلتحق بالكلية العسكرية البريطانية قرب مدينة يافا عام 1942 وتخرج منها برتبة ملازم، وامضي نحو ثلاث سنوات في الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية رقي خلالها إلى رتبة نقيب.
إحدى المفاصل التي قلبت مزاج التل بشكل كامل كان اتساع دائرة المؤامرة على فلسطين، فالتحق دون تردد بـ”المكتب العربي” بالقدس، وهو المكتب الذي أسسه موسى العلمي ممثل فلسطين في المؤتمر التأسيسي لجامعة الدول العربية، وكان الهدف من تأسيسه التأثير على الرأي العام وكسبه إلى جانب العرب بخصوص فلسطين.
وتفرغ وصفي للعمل في “مكتب القدس” ثم لاحقا للعمل في “مكتب لندن”، ومن خلال موقعه وضع التل تقريرا حول مخاطر الصهيونية واقترح تشكيل قوة عسكرية فلسطينية تعمل على مقاومة اليهود.
بدأت أفكاره بالنضوج في تلك المرحلة، واخذ يلفت إليه الأنظار، لكنه لم يتمكن من طرح أفكاره بوضوح أكثر، فالأحداث داهمت المنطقة العربية على اثر صدور قرار التقسيم، وتشكيل لجنة عسكرية عربية اتخذت من دمشق مقرا لها وأخذت تدعو الشباب العربي للتطوع في “جيش الإنقاذ”، وكان التل من المتطوعين فاستقال من ” المكتب العربي”، فكلفته القيادة برئاسة اللواء الرابع (اليرموك) وخاض مع قواته معركة كبيرة عرفت بـ”الشجرة” وأصيب بشظية في ساقه.
وعندما أعلنت “الهدنة العربية الإسرائيلية” رفضها التل والتحق بالجيش السوري ضمن قوات “اليرموك”.
وحين قرر وصفي نقل قواته إلى فلسطين لمقاومة الصهيونية، وعلم الرئيس السوري حسني الزعيم بنوايا التل قرر نقله إلى الجولان وقام باعتقاله في سجن المزه، ثم أطلق سراحه وعاد إلى عمان.
نكبة فلسطين كانت حافزا له على وضع كتاب “دور الخلق والعقل” أكد فيه أن أسباب الهزيمة تعود إلى “الغوغائية والمتاجرة بعواطف الجماهير وجراحها والخوف من مصارحة الشعوب”.
هذا الكتاب سيكون مدخلا لإصدار صحيفة ” الهدف” عام 1950، وصدرت تحت شعار” مجلة السياسة القومية والأدب القومي”، وجميع الذين شاركوا في إصدارها كانوا من الفلسطينيين.
واصل التل نشاطه الصحافي من خلال صحيفة ” الرأي” التي أصدرتها “حركة القوميين العرب” عام 1953 وترأس تحريرها “الحكيم ” الدكتور جورج حبش الذي سيؤسس فيما بعد “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي استندت إلى “الاشتراكية العلمية” والتي ستكون فيما بعد أحد أطراف النزاع الرئيسية في الساحة الأردنية.
اختلف التل مع “حركة القوميين العرب” بعد تبنيها للفكر الناصري واتخاذها خطا معاديا للغرب وتعاونها مع الاتحاد السوفيتي، خلافه هذا أعاده إلى العمل الحكومي مديرا للمطبوعات عام 1955، نقل بعدها إلى الخارجية مستشارا في السفارة الأردنية ببون، ثم لاحقا رئيسا للتشريفات الملكية، وقائما بأعمال السفارة الأردنية بطهران .
تنقل بعدها في المواقع الرسمية مديرا للإذاعة ومديرا للتوجيه الوطني، وتولى إدارة الحرب الإعلامية الأردنية في مواجهة الهجمة الإعلامية القادمة من “صوت العرب” بالقاهرة .
حين كلف بحكومته الأولى عام 1963 كان سفيرا في بغداد، وكان أكثر من نصف أعضائها من الفلسطينيين، وكانت حكومة استثنائية في تاريخ الأردن إذا لم يسبق لأي من أعضائها أن كان وزيرا بما في ذلك الرئيس.
وأجرت الحكومة مصالحة وطنية كبرى بين المعارضة والحكم، وأصدرت عفوا عاما عن المعتقلين المحكومين والمنفيين السياسيين، مما أوجد أجواء ايجابية سمحت بإجراء انتخابات نيابية جديدة.
وفي حكومته الثانية عام 1965 أكمل التل إغلاق ملف المصالحة الوطنية بإصدار عفو عام عاد على ضوئه عدد من اللاجئين السياسيين إلى الأردن.
وبعد أن نفض التل يديه من ملف المعارضة الذي كان عالقا لسنوات، تفرغ لبحث العلاقة بين الحكومة و”منظمة التحرير الفلسطينية” على قاعدة واحدة تقول :”سيادة الأردن على أرضه وسكانه”.
وأعلن التل أمام مجلس الأمة عن تعاون حكومته مع “منظمة التحرير” وتشكيل تنظيمات شعبية مدربة عسكريا وتسليح القرى الحدودية، وعين نجيب ارشيدات عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية واللواء على الحياري مديرا للدائرة العسكرية في “المنظمة”.
الخلاف الأول بين الحكومة و”منظمة التحرير” نشأ بعد إصرار “المنظمة” على أن تتولى النشاطات ذات الطابع العسكري والشعبي في الأردن، وأن يتم تجنيد الفلسطينيين في “جيش التحرير الفلسطيني”.
بالطبع رفضت الحكومة هذه المطالب وأصرت على التمسك بمقولة “سيادة الأردن على أرضه وشعبه”.
ونشأ وتعمق جزء كبير من هذه الخلافات بسبب التحريض الإعلامي العربي القادم من القاهرة وبغداد ودمشق ضد الحكومة الأردنية، وضد وصفي التل شخصيا.
وتفاقم الخلاف بعد الهجوم الصهيوني على قرية السموع في الضفة الغربية، وحملت المعارضة الحكومة مسؤولية التقصير في الدفاع عن القرى الحدودية، واحتراما لرغبة البرلمان استقالت الحكومة عام 1966. رغم أن الجيش الأردني قدم نموذجا رفيعا في القتال والصمود في وجه الصهاينة في هذه المعركة الاستثنائية.
غير أن الأجواء لم تختلف كثير بعد تشكيل التل لحكومته الرابعة مباشرة، فقد انضمت مصر وسوريا و”منظمة التحرير” إلى معسكر شن حملة إعلامية مكثفة ضد الحكومة ورئيسها على وجه التحديد، فقامت الحكومة بحل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية جديدة، ومع بدء توترات حرب حزيران / يونيو عام 1967 استقال التل وعين رئيسا للديوان الملكي.
لم يخف التل مخاوفه من دخول الأمة العربية للحرب، وخصوصا الأردن، في ظل الوضع العربي الملبد بالغيوم آنذاك، وأعلن صراحة أن نتيجة الحرب ستعني ضياع الضفة الغربية والقدس، غير أن الأردن وجد نفسه “مرغما” على دخول الحرب حفاظا على “حالة التضامن العربي” الوليدة آنذاك، وكتب عدد من الباحثين بأن تلك الفترة كانت الأكثر توترا وعصبية في حياة التل الذي كان يرى “ظلال الهزيمة تغطي الفضاء العربي”.
كارثية الهزيمة دفعت التل إلى طرح فكرة إنشاء قوات وطنية وإعادة تنظيم الجيش الأردني ودمج النشاط الفدائي في المجهود العسكري العام، والتركيز على حرب عصابات حقيقة تؤلم “إسرائيل” وتضعفها وتجبرها على التوسع في القتال، مع رفض أية تسوية سياسية تعترف بسيادتها على أي جزء من فلسطين، وتصادف أن تناغمت هذه الأفكار من مطالب الفدائيين وخططهم.
في تلك الأثناء كانت العلاقة بين “منظمة التحرير” والحكومة الأردنية قد وصلت إلى مرحلة مقلقة وخطرة جدا، ويعترف القيادي في “حركة فتح” الراحل صلاح خلف (أبو إياد) في كتابه “فلسطيني بلا هوية” بأن تجاوزات بعض الفدائيين ساهمت في الوصول إلى المواجهة “الحتمية”.
اتسعت في عام 1970 الهوة بين الحكم و”المنظمة” بعد تبني الحكومة للحل السياسي للقضية الفلسطينية ورفض “المنظمة” لهذه الحلول، ووقع الصدام المسلح الذي انتهي بتوقيع اتفاقية القاهرة بين الحكومة الأردنية والفدائيين.
طيلة السنوات التي أعقبت حرب حزيران والصدام المسلح عام 1970 كان التل بعيدا جدا عن المنصب الرسمي، وقريبا جدا من المشهد الداخلي الأردني.
احتاج الأردن، في مرحلة التأرجح بين “بقاء الدولة” أو “سقوطها”، بين “سلطة الدولة” و”سلطة المقاومة” إلى رجل قوي لا يجامل ولا يخضع الأمور لعاطفته ولمزاجه، رجل تربطه بالقضية الفلسطينية علاقة خاصة وتاريخية، فكلف التل بتشكيل الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1970 أي بعد انتهاء المواجهات المسلحة.
كلف التل بإعادة “النظام والهدوء والقانون إلى البلاد”، وأعلن عن استعداد حكومته التعاون مع “الفدائيين المنضبطين” لا أولئك “اليساريين الساعين لانتهاك النظام والدين ويحاولون إعاقة التفاهم بين الحكومة و”فتح”.
ووفقا لمصادر متفاوتة، كان الملك الحسين يرغب بتوجيه ضربة عسكرية محدودة تحصر النشاط العسكري للفصائل داخل المخيمات وتعيد “هيبة الدولة”، بينما كانت المؤسسة العسكرية تنزع إلى توجيه الضربة القاضية مستغلة التفوق العسكري لديها، وكان يقود هذا الرأي المشير حابس المجالي، وصفي التل، وزيد الرفاعي، وزيد بن شاكر ومدير المخابرات نذير رشيد.
ووفقا لما نشر في مذكرات بعض الذي عاصروا التل فقد كان الأردنيون من أصول فلسطينية، المنتسبين للجيش العربي والأجهزة الأمنية، الأكثر رفضا لحالة الفوضى التي شهدها الأردن عام 1970، والأكثر قبولا لرؤية التل.
أجرى التل عملية تطهير واسعة في أجهزة الدولة الرسمية لجميع العناصر الموالية لـ”منظمة التحرير”، وتم فصل (250) موظفا منهم (160) من أصل أردني، و(90) من أصل فلسطيني، ولملء الفراغ السياسي أعلن عن إنشاء “الاتحاد الوطني الأردني” عام 1971.
في ذلك العام استضافت القاهرة اجتماعات وزراء الدفاع العرب، وأصر التل على المشاركة رغم معارضة الملك الحسين بوصف التل “شخصا غير مرغوب به في مصر”، وخرج الملك لوداعه في المطار وهو أمر لا يحدث عادة مع رؤساء الحكومات.
وذكر مدير دائرة المخابرات وقتها نذير رشيد بأنه قام بتحذير وصفي التل بأن “النظام الناصري” يعد لاغتياله فرد عليه التل:”ما حدا بموت ناقص عمر والأعمار بيد الله”.
وحضر التل أول اجتماعات مجلس الدفاع العرب، وفي عصر يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1971 وعند مدخل فندق ” الشيراتون”، وبعد أن ترجل من سيارته، أطلق ثلاثة أشخاص النار عليه مما أدى إلى وفاته دون أن تسيل منه قطرة دم واحدة، بعد أن أصابه نزيف داخلي.
وكان مشهد الوزراء العرب المتواجدين في الفندق وهم يفرون أو “ينبطحون” أرضا قد أكمل مشهد الجريمة، وكانت صور مؤلمة لحالة الذعر والضعف الإنساني، وسط ذهول حراسه والوزراء العرب الذين سارعوا بالاختباء.
القي القبض على القتلة الذين كانوا يحملون جوازات سفر سورية، واتفقوا على القيام بالعملية في بيروت، وكانوا يتوقعون أن يكون قائد الجيش حابس المجالي بين المشاركين في الوفد ولكنه لم يتمكن من الحضور.
أعلنت منظمة مجهولة أطلقت على نفسها اسم ” أيلول الأسود” مسؤوليتها عن الاغتيال، وهي منظمة ارتبط اسمها في عملية أخرى في “عملية ميونخ ” واختفت بعد ذلك إلى الأبد، في تلك الفترة أيضا نجا السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي من محاولة لاغتياله في شارع كينسنغتون وسط لندن.
وتوجهت أنظار الأمن المصري إلى أبو يوسف النجار وهو الأمر الذي فنده التحقيق وأعلنت الصحف المصرية أن المتهم الأول والعقل المدبر للعملية وقائد المجموعة هو المتهم الفار فخري العمري.
ومنذ ذلك اليوم بقى العمري مطلوبا للنظام القضائي الأردني حتى وفاته عام 1991.
حتى أن محمد داود عودة (أبو داود) والذي وثق لبعض عمليات “أيلول الأسود” في كتابه “من القدس إلى ميونخ”، ونسب إليه تأسيس هذه المنظمة، لم يأت على ذكر هذه العملية ومسؤولية “أيلول الأسود” عنها، وأقر دائما بأنه لا يعرف منفذيها. وسبق أن اعتقل “أبو داود” في الأردن وحكم عليه بالإعدام عام 1973، إلا أن الحكم خفف إلى المؤبد ثم أفرج عنه بعفو ملكي في نفس العام.
شكك تقرير الطب الشرعي المصري، كما نشر في صحيفة “الأهرام” في عملية الاغتيال حيث أكد أن الرصاص الذي قتل التل لم ينطلق من الأسلحة المضبوطة مع المتهمين، وكان اثنان من المتهمين قد ضبطوا، قبل تنفيذ العملية، في مطار القاهرة وبحوزتهم أسلحة وأطلق سراحهما .
وأطلق سراح المتهمين دون أن توجه لهم أية تهمة، أو قرار بالإدانة، فيما ترددت روايات متضاربة بأن القيادي في “فتح” أبو يوسف النجار، وفي روايات أخرى القيادي في ” فتح” أبو علي حسن سلامة هو من خطط للعملية، لكن كلا الروايتين نفيت من قبل مصادر عدة، فيما لا تحسم روايات أخرى علم مصر وسوريا بالعملية قبل تنفيذها.
وأشيع فيما بعد، أن السبب وراء اغتيال التل، كان الانتقام من مقتل القيادي في “فتح” أبو علي أياد بعمان، ولا علاقة له بأحداث أيلول عام 1970، وفقا لشهادات من شخصيات فلسطينية وأردنية مطلعة من بينها صلاح خلف (أبو أياد)، وفيما يتعلق بالجانب العربي فقد كانت لدى حكومات مصر وليبيا وسوريا أسبابها للتخلص من الرجل، فيما يقال بأن أطرافا أخرى ربما دخلت على مشهد الاغتيال اللغز والأحجية.
دفن التل في المقابر الملكية، لكن جثمانه اخرج فيما بعد وتم دفنه في منزله بناء على رغبة سابقة للتل، حيث كان التل جالسا مع أصدقائه بالقرب من البقعة (التي دفن فيها) يبحثون الموقف، وسأل أحدهم ما الذي يمكن عمله، وقال التل: ” البقاء هنا والقتال حتى الموت، وبعد موتي أن يدفنوني هنا ” وبناء على ذلك أذن الملك لعائلته بنقله استجابة لأمنية راودت التل.
لم يكن أحد يملك الكاريزما في الأردن ليحل مكان التل، كان التل يتمتع بمكانة فريدة لدى الأردنيين ولدى الملك، كان صريحا ومباشرا دون مواربة مع الملك، وكان معروفا عنه كراهيته للفساد وهي فضيلة لا يتمتع بها كثيرون من الساسة في الأردن حاليا، بل أصبحت صفة ملازمة لعدد من السياسيين فيما بعد، ويقول خصومه بأن عدم اهتمامه بالجانب المادي والمالي كان يستفزهم ويثير الإعجاب في الوقت نفسه.
وعلاوة على ذلك كان يتمتع بثقة الجيش، وهي ثقة لم يحصل عليها أحد في الأردن باستثناء الملك، وكان الجيش يهتف باسمه في هتاف معروف في حالة نادرة في الأردن.
رحيل التل كان خسارة للأردن ولفلسطين، فالرجل قاتل على أرض فلسطين وواجه الصهاينة، وكان مؤمنا بالكفاح المسلح ولكن ضمن خطة ورؤية خاصة به قدمها في كتاب، وعلى أن يكون ضمن تحركات الجيش العربي.
التل كان ضحية الخلافات العربية العربية، وضحية الحوار المستحيل في الأردن في ظل الفوضى، والمواجهة الممكنة وسط محيط عربي مضطرب .
وحده يتذكره الأردنيون بشغف وحزن دفين ومشاعر تستحضر زمن القوة ونظافة اليد ورومانسية رجال الدولة والواقعية السياسية. كان سياسيا بعيدا عن الفساد والمحسوبيات، فقد استشهد وعليه دين بضع دنانير، ولم يكن راتبه يكفي لسدداها كما يروي المقربون منه.
كان رئيسا لا يخجل من أن يستدين على أن يتجاوز على المال العام الذي كان مؤتمنا عليه.
سيقال الكثير حول شخصية وصفي التل، وسيتعمد كثيرون ربطه بأحداث أيلول/سبتمبر عام 1970، حتى يفقدوه قيمته كرجل دولة صاحب رؤية في السياسة الداخلية بكافة جوانبها، وكسياسي حظي باحترام وثقة الأردنيين والجيش، وسيركز البعض على القتلة الذين كانوا وسيبقون دائما على الهامش في صفحته وتاريخه.
لم يكن التل محبا للطقوس الاجتماعية الرسمية، وكان يحب، متى ما توفر له الوقت أن يذهب بعيدا لمزرعته. طاقته، وقدراته، وعدم فساده، صفات جعلت منه واحدا من رؤساء حكومات قليلين في الأردن ممن امتلكوا تأثيرا حقيقيا على السياسة الأردنية المستقلة عن القصر.
حياته الشخصية بسيطة جدا ولا تفاصيل مهمة تذكر حولها غير أنه تزوج من السيدة سعدية الجابري ذات الأصول الحلبية، والتي توفيت عام 1995 والتي لم ينجب منها التل أطفالا، وكانت قد أوصت بتحويل بيتها إلى متحف.
ثمة أسئلة كثيرة تثار في ذكرى وصفي التل، هل كان وصفي التل رجلا يغرد خارج سربه في زمن الضعف العربي، هل كانت علاقة التل مع الفدائيين تثير حيرته وقلقه فهو يدافع عن حقهم في الكفاح ولكنه لا يقبل إضعاف الدولة، هل كان وصفي ضحية سوء الفهم في بعض الأحيان، وفشل الحوار في أحيان أخرى، هل كان الأردن والعمل الفدائي كانا ضحايا مؤامرة صهيونية مدعومة من قوى دولية، أدت إلى دخول أطراف عربية عديدة على ما جرى في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1971.
كان رحيل التل أشبه بصفير قطار في ليلة ممطرة مظلمة رطبة كأنها ” ظلمات في بحر لجي”، وسيكتب الكثير عن الرجل، بعضه يحلل بهدوء وروية، وبعضه منفعل من عقاله بلا هدف أو غاية وكأنه يريد تكرار الحكاية، لكن لن يتمكن أحد من الوصول إلى الحقيقة إلا بجهد وتعب وبحث مضني في الوثائق وأرشيفات الصحف التي كتبت عن تلك المرحلة.
خمسون عاما ولا يزال التل يثير في نفوس الأردنيين الحنين إلى عصر الرجولة وقوة الشخصية والإدارة والإرادة، إلى عصر دولة الإنتاج وبناء المؤسسات، إلى كاريزما وضعته في مركز التفرد، وكأنه طبقة من رجالات الدولة توقف الزمان عن إنتاجهم لمواجهة زمن باتت فيه دولة الاحتلال تحكم الأرض العربية.