
من #زيت_الزيتون الى #زياد_المناصير
#معاذ_الشناق ناشط نقابي و سياسي أردني
من زيت الزيتون الى زياد المناصير، يبرز سؤال موجع يلحّ على الوجدان الوطني: هل الهوية الأردنية تلفظ أنفاسها الأخيرة، أم أنّ هناك من يحاول خنق رموزها الحية الواحدة تلو الأخرى؟ في بلد تشكّلت هويته من عرق الفلاح وعرق العامل، تبدو استهدافات شجرة الزيتون المباركة ورجل الأعمال الوطني علامة أخطر من مجرد جدل اقتصادي أو موسمي؛ إنّها إشارة إلى خلل عميق يضرب صميم علاقة الدولة بالمجتمع، والإنتاج بالهوية.
زيت الزيتون في الأردن ليس مادة غذائية فحسب، بل هو جزء من الذاكرة الجمعية. هو حكاية الفلاح الأردني الذي حمل همّ الأرض قبل أن يحمل همّ الفاتورة، واستيقظ فجرًا ليعتني بشجرة يعرفها غصنًا غصنًا. حين يصبح هذا الزيت موضوع تشكيك دائم، وغش متكرر، وترك للفلاح تحت رحمة السوق والوسطاء دون حماية حقيقية، يشعر كثيرون أن ما يُستهدف ليس منتجًا زراعيًا فقط، بل رمزًا من رموز الهوية الوطنية. الفلاح الذي كان يُقدَّم لعقود على أنّه عمود من أعمدة قيام الدولة، بات اليوم يواجه وحيدًا ارتفاع الكلف، وتقلّب الأسعار، وغياب التنظيم، وضعف الدعم، وفتح الأبواب أحيانًا أمام المستورد على حساب المنتج المحلي. عند هذه النقطة، تتحول “حرب زيت الزيتون” من نقاش حول سعر التنكة وجودتها، إلى سؤال عن مكانة الفلاح في معادلة الاقتصاد والسياسة والهوية.
في الضفة الأخرى من المشهد يقف رجل الأعمال الوطني الذي يختار أن يستثمر داخل الأردن، وأن يفتح المصانع والشركات، ويشغّل آلاف العمال والموظفين من أبناء البلد. نموذج زياد المناصير، كما يتداوله الرأي العام، لم يعد مجرد اسم تجاري، بل أصبح رمزًا لنمط معيّن من رجال الأعمال الذين يصرّون على أن يكونوا جزءًا من مشروع وطني اقتصادي حقيقي. غير أن ما يتناقله الناس من أحاديث عن تضييق، وتعقيدات إجرائية، وضغوط رسمية مباشرة أو غير مباشرة، يثير مخاوف جدية من أن البيئة المحيطة بالاستثمار لا تزال تعاني من بيروقراطية ثقيلة، ومن ممارسات يُنظر إليها على أنها تُقرب بعضًا وتُبعد آخرين، لا بناءً على معيار الكفاءة والالتزام، بل وفق حسابات ضيقة لا تخدم المصلحة العامة.
لا أحد يطالب بتحويل رجال الأعمال إلى رموز فوق النقد أو المساءلة، ولا بالمقابل تحويل الفلاح إلى حالة عاطفية معصومة عن الخطأ. المطلوب ببساطة هو الاعتراف بأن الفلاح الذي يحمي الشجرة، ورجل الأعمال الذي يصرّ على تشغيل العمالة الأردنية ودعم الاقتصاد الوطني، هما ركيزتان من ركائز الهوية الأردنية المعاصرة. حين يُترَك الأول لمصيره في سوق منفلت، ويُحاصَر الثاني بتضييقات وتعقيدات لا تنتهي، يشعر المواطن أن منظومة كاملة من القيم تنقلب على ذاتها، وأن من يعمل بجدّ لا ينال ما يستحقه من حماية واحترام.
الحديث عن الفساد هنا ليس ترفًا لغويًا، بل هو وصف لواقع أشار إليه مسؤولون وتقارير وخبرات طويلة في الإدارة والاقتصاد. الفساد لا يظهر فقط في قصص كبرى عن اختلاس وملفات ضخمة، بل يتسرّب إلى التفاصيل اليومية: في رخصة تتأخر لأن صاحبها “ليس من أصحاب الحظوة”، وفي إجراءات تطول على هذا وتُختصر على ذاك، وفي تردد رسمي في حماية المنتج الوطني بجدية، وفي رسائل غير معلنة تجعل بعض المستثمرين يشعرون أن استمرارهم في البلاد مشروط برضى غير مكتوب. في ظل هذه الأجواء، تتعرض الثقة العامة لتآكل مستمر، ويتراجع الإيمان بأن الدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن القانون هو الحكم الفصل بين مصالح الفلاح ومصالح التاجر ومصالح رجل الأعمال.
الهوية الوطنية لا تموت دفعة واحدة، بل تُستنزف تدريجيًا حين يُهمَل الفلاح، ويُضيَّق على رجل الأعمال الوطني، ويُترك المواطن حائرًا بين روايات متضاربة. خطورة المشهد اليوم ليست في وجود خلافات أو أزمات اقتصادية، فهذا أمر طبيعي في مسار الدول، وإنما في الطريقة التي تُدار بها هذه الأزمات: هل تُدار بعقل وطني جامع يحمي رموز الإنتاج الحقيقي، أم تُترك فريسة لفساد وبيروقراطية وصراعات مصالح قصيرة النظر؟ حين يشعر الناس أن من يغش ويحتكر لا يُحاسَب كما ينبغي، بينما من ينتج ويستثمر بجدية يواجه التعقيد والتشكيك، يتعمق الإحساس بالظلم، ويتهدد ذلك الخيط الدقيق الذي يربط المواطن بالدولة، والاقتصاد بالوطن.
حماية الهوية الوطنية في هذه اللحظة لا تكون بالشعارات، بل بالقرارات. دعم زيت الزيتون الأردني لا يكون بعبارات الفخر فقط، بل بسنّ سياسات واضحة تحمي المزارع من الغش والابتزاز، وتنظم السوق، وتمنح المنتج المحلي مكانته الطبيعية في أولويات الدولة. وحماية رجل الأعمال الوطني لا تكون بالمديح الإعلامي، بل بتوفير بيئة استثمارية شفافة وعادلة، تحاسِب الفساد وتقف على مسافة واحدة من الجميع، وتعترف صراحة بأن تشغيل العمالة الأردنية وحماية المال الوطني هدفان استراتيجيان، لا مجرد شعارات في الخطب.
ما بين شجرة الزيتون ومعمل الإسفلت، وبين المعصرة ومحطة المحروقات، وبين الفلاح ورجل الأعمال، تتشكل ملامح الهوية الأردنية التي نريدها: هوية عمل لا تواكل، وإنتاج لا استهلاك فقط، وعدالة لا محاباة. السؤال الحقيقي اليوم ليس: هل الهوية تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ بل: هل ستتخذ الدولة والمجتمع معًا ما يلزم من خطوات كي لا يسمحا للفساد والتضييق أن يخنقا رموز هذه الهوية واحدة تلو الأخرى؟
إنّ الدفاع عن الهوية الوطنية يبدأ من احترام من يجسّدها في الميدان: الفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، ورجل الأعمال الذي يصرّ على أن يبقى مشروعه هنا لا هناك. وإذا كان هناك من حرب حقيقية يجب أن تُخاض، فهي ليست حربًا على زيت الزيتون، ولا على رجال الأعمال الوطنيين، بل حرب على الفساد والعجز والتردد، لصالح دولة عادلة واقتصاد منتج ومجتمع يشعر أن تضحياته تجد من يصونها ويحميها. بهذه الروح وحدها يمكن القول إن الهوية الأردنية، رغم كل الجراح، ما تزال قادرة على الحياة.




