التاريخ معلم

التاريخ معلم
د. هاشم غرايبه

هنالك رموز وطنية، كانت منسجمة مع عقيدتها والتي هي ضمير الأمة، ظلت صادقة في انتمائها، ولم يزعزع إيمانها كثرة الساقطين وما تخلوا عن قناعاتهم بأن هذه الأرض المجبولة بدماء الأجداد الذين حموا دين الله فيها، تستحق التضحية من أجلها.
أحد هؤلاء القائد الأردني “عبد الله التل”، الذي خاض معركة الدفاع عن القدس عام 1948 ، وكتيبته هي التي حمتها بعد أن خيرهم بين الشهادة والنصر، فصمدوا رافضين أوامر القيادة الإنكليزية بالانسحاب، وبالطبع ليس في الإمكان معاقبته، فلفقوا له تهمة التآمر للإنقلاب فلجأ الى مصر وبقي هنالك ثمانية عشر عاما، ألف خلالها عدة كتب منها مذكراته عن معركة القدس تحت إسم كارثة فلسطين.
لا يتسع المقام لذكر تفصيلات ما سماه بالتواطؤ لتأسيس الكيان الصهيوني، وتمكين العصابات الصهيونية من احتلال مناطق فلسطين، رغم أنه كان بالإمكان القضاء عليها عسكريا لو كانت النوايا صادقة باتجاه دحرهم، ويمكن للمهتم بتتبع التفاصيل الرجوع الى الكتاب وهو منشور على الإنترنت.
الأهم في هذا الكتاب أنه يؤكد ان ضياع فلسطين عسكريا لم يكن بسبب تفوق العدو، بل بسبب اختراق الغرب للأنظمة العربية المؤتمنة على حماية ديار الأمة، لذا ليس صعبا تعويض ذلك في أي وقت إن صدقت النوايا لدينا.
والحقيقة أن التآمر لم يتوقف في أية فترة، بل ما زال الى اللحظة، وهو حالياً على أشده.
لذلك في ظل الصورة الحالية للأنظمة العربية، لا يمكن أن يرتجى منها أية نية في اتجاه تحقيق حلم الأمة بالقضاء على الكيان اللقيط، رغم أنه لا شك أن كل رئيس نظام عربي يحب ان يلقب بصلاح الدين الثاني، لكنهم جميعهم قعدوا عن العمل لتحقيق ذلك، لأن أحلامهم قزّمتها أطماعهم ببقاء الكرسي وتوريثه.
البديل هو التعويل على المتمسكين بالعقيدة الجهادية من أحرار الأمة من أمثال عبدالله التل، وهم كثر، فما عقمت الأمة عن إنجابهم في أي زمان، لكن لكي يبزغ فجر التغيير، يجب علينا بث الأمل لقطع الطريق على القاعدين المحبِطين، ونشر قاعدة الوعي لفرز مدعي النضال عن المجاهدين الحقيقيين.
لعل من أهم أسباب تأخر نصر الأمة هو هذه الحالة المقصودة بالخلط بين الذين ينتصرون للأمة، والذين يسارعون لتمكين الكيان اللقيط بذريعة الأمر الواقع، فشتان ما بين الإرهابي المدسوس وبين الجهادي النقي الذي يجاهد في سبيل الله، وشتان ما بين من يقوم بالتنسيق الأمني مع العدو ومن يناجزه بما في يديه من وسائل قليلة.
المرحوم “مشهور حديثه الجازي” كان أحد رفاق المرحوم “عبدالله التل” في السلاح وتتلمذ على يديه، قاد معركة الكرامة عام 1968، وتعلم الدرس منه، فقطع مسبقا خطوط الاتصال مع القيادة ، فانتصر على العدو ليثبت أن الجندي الأردني إن أتيحت له فرصة القتال ينتصر، لأن عقيدته الاستشهادية أقوى من كل التقدم التقني للعدو الذي يخوفنا به المرجفون.
المرحوم “عبد اللطيف عربيات” رئيس مجلس النواب الأردني الأسبق، يبين في شهادة له موثقة بالصوت والصوة، نقلا عن “مشهور الضامن” أحد أعيان فلسطين الذي حضر المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس عام 1964 كيف تم التآمر على القضية الفلسطينية بتحويلها من قضية الأمة الإسلامية الى قضية عربية ثم قضية للفلسطينيين فقط ، ثم جعل منظمة التحرير هي المتصرف الوحيد فيها، ففي ذلك المؤتمر كان الإعداد المسبق واضحا من قبل أولئك الذين أصبحوا في ما بعد قادة مناضلين، حينما جرى التصويت على أن فلسطين قضية عربية وليست إسلامية.
فيما بعد طالب هؤلاء مؤتمر قمة الرباط أن تكون منظمة التحرير ممثلا وحيدا لفلسطين، وكان ذلك لأجل أن يتخلى الأردن عن المطالبة بالضفة الغربية والقدس كونها جزءا من أراضيه التي احتلت عام 67، بالطبع فتح ذلك المجال لتوقيع اتفاقيتي (وادي عربه وأوسلو) واللتين حققتا التنازل الرسمي عن فلسطين.
ترى هل تسلسل الأحداث كان عفويا أم مخططا له؟.
ربما يكشف السر مراسلات “كينيدي” مع عبد الناصر عام 1961، عندما كان يحثه على تكوين جسم سياسي ممثل للاجئين فلسطينيين، ويبدو أن السقوط في الفخ بدأ بتأسيس منظمة التحرير، حيث ظن حسنو النية أنها للتحرير، ولم يعلموا إلا متأخرين أن الهدف تحييد العقيدة الجهادية والتي هي النقيض الأقوى للمفاوضات السياسية العبثية، والأداة الحقيقية للتحرير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى