من آفات اللسان المهلكة [الغيبـــــــــــــــــــة] / ماجد دودين
#الغيبة دأب اللئام، وهي من #آفات #اللسان، فمن نطق بالغيبة كثر غلطه، وحوسب على كلامه، وتضاعفت آثامه، وكثر عتابه، وفقد أصحابه؛ لقوله ما لا ينبغي، ووصفه للناس بما يؤذي، واتباعه للهوى، فمن غلبت عليه شهوة الكلام تطاول في أعراض الكرام، والغيبة رذيلة اجتماعية تولد الكراهية، وتضر بالعلاقات الإنسانية، وتسبب القطيعة والجفاء، ولذا ورد النهي عنها في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}، ومن ذا الذي يحب أكل لحم أخيه؟ إلا من ذكر غيره بما فيه من عيب ولم يحذر سموم الاغتياب إلى أن يقع في العذاب، فالمرء مؤاخذ بعزمه على المعصية…
حد الغيبة
حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو دينه، أو دنياه، حتى ثوبه وداره ودابته، أما البدن فكذكرك وصف مما يكره أخوك وذلك كالطول والقصر والسواد والصفرة وكل ما يتصور أن يتأذى منه، وأما الخلق فكأن تقول: هو سيء الخلق أو بخيل أو متكبر أو عاجز أو ضعيف أو متهور أو سارق أو كذاب أو خائن أو ظالم أو متهاون أو فاسق أو خسيس إلى غير ذلك مما لا يندرج تحت حصر، وضابط الأمر أنه كلما يكره أخوك أن تذكره به فهو غيبة، ومما نسب إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: (عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء) .
ولا ينبغي للمسلم أن يصغي لسماع الغيبة بل إنه يدفع عن أخيه، فإن بالدفاع بالكلام الحسن خير الدنيا والآخرة، ومن رذائل الغيبة أن من أصغى إلى سماعها حوسب، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال: (هي في النار) وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح: ((قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ.)) الأثوار من الأقط أي اللَّبنُ المُجفَّفُ.
وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة: الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل، فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك.
وقد حكى بعض العلماء أن من الأسباب الداعية إلى الغيبة: اشفاء الغيظ، ومن اتقى الله لم يشف غيظه، ومن أسباب الغيبة حب موافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء والخلان، وذلك خلق غير محمود، ومن الأسباب الداعية إلى الغيبة إرادة التصنع، والمباهاة، والتمثيل، والاستهزاء، والسخرية، والحسد، واللعب، وكل ذلك مذموم.
لا تهتكن من مساوي الناس ما ستروا … فيهتك الله ستراً من مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا … ولا تعب أحداً منهم بما فيك
وإنما يجترئ على اغتياب الناس كثير الخطايا والذنوب والعيوب، وكفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً وهو يقع في الصالحين
واغتياب المرء غيره دليل على عيبه واستمراره في غيه
سمع إعرابي رجل يقع في الناس فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس، لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
إن من يتعرض لأعراض الناس يتعرضون لعرضه، وقديماً قيل: “من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه”، وقيل: “بحثك عن عيوب الناس يدعو إلى بحثهم عن عيوبك”، قال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمه … ذموه بالحق وبالباطل
روي عن الحسن البصري قال: أن رجلا قال: إن فلانا اغتابك فبعث اليه طبقة من الرطب، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام”
[علاج الغيبة]
لسانك حصانك، وخيرك يعلم من محبتك لإخوانك، فمن رضي لنفسه بالإساءة شهد على نفسه بالرداءة والدناءة، ومن زال معهود إحسانه استحال موجود إمكانه، ومن عف عن الريبة كف عن الغيبة، وإن من أعظم الفجائع إضاعة الصنائع، ومن حسن الصنيعة الكف عن الأذى والقطيعة، وقديماً قيل: “التوبة تسقط العقوبة، وإحسان النية يوجب المثوبة”، وإن من يتملق لك بذكر معائب الناس اليوم يقع في عرضك غداً.
قال الشاعر:
إِنَّ شَرَّ الناسِ مَن يَضحكُ لي … حينَ يَلقاني وَإِن غِبتُ شَتَم
وَكلامٍ سَيِّئٍ قَد وَقَرَت … عَنهُ أُذُنايَ وَما بي مِـــــــــن صَمَم
وَلَبَعضُ الصَفحِ وَالإِعراضِ عَن ذي الخَنا أَبقى وَإِن كانَ ظَلَم
إن علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه سلامة المسلمين من يده ولسانه، حسن معاملته لإخوانه، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)
فحفظ اللسان إلا فيما ينفع من علامات الإيمان، فاللسان أملك شيء للإنسان، فإذا حفظ الإنسان لسانه وصان نطقه وكلامه عن اغتياب الناس نجا، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)
من أساء فعلى نفسه اعتدى، ومن طال تعديه كثرت أعاديه”، وقيل: “من ساء كلامه لم يأمن أبداً، ومن حسن كلامه لم يخف أحداً، ومن طال عدوانه زال سلطانه، ومن ظلم نفسه ظلم غيره، ومن أساء اجتلب البلاء، ومن أحسن اكتسب الثناء، وشر الأقوال ما أجلب الملام، وشر الآراء ما خالف الشريعة، وأقبح الكلام ما كان غيبة أو نميمة
وجاء في شعر الإمام الشافعي رضي الله عنه:
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى … وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ … فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً … فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى … وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
[الصمت وأدب اللسان]
إن من لزم الصمت غدا في عقله فاضلاً، وفي جهله عاقلاً، وفي قدرته حليماً، وفي عجزه حكيماً، وقد قيل: “إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ويحرك من عدوك ما سكن، فكلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فالعاقل من اقتصر على الجميل، واقتصر من الكلام على القليل”، فخير الناس من حفظ لسانه، وكف عن عرض أخيه واعرض عمّا لا يعنيه، وفي الحديث النبوي حكمة ومثل: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)
وقال أبو حاتم رضي الله عنه: الصمت يكسب المحبة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والرجوع من الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والصمت منام العقل والمنطق يقظته، وعن أنس أن لقمان قال: “من الحكم الصمت وقليل فاعله”
أقلل كلامك واستعذ من شره … إن البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسان واحتفظ من غييه … حتى يكون كأنه مسجون
وقال مالك بن أنس: كل شيء ينتفع بفضله إلا الكلام فإن فضله يضر.
إِن كانَ يُعجِبُكَ السُكوتُ فَإِنَّهُ … قَد كانَ يُعجِبُ قَبلَكَ الأَخيارا
وَلَئِن نَدِمتَ عَلى سُكوتِكَ مَرَّةً … فَلَقَد نَدِمتَ عَلى الكَلامِ مِرارا
[الإصغاء إلى الغيبة]
من أصغى إلى الغيبة فقد وقع في الإثم والريبة، فصن سمعك عن الغيبة والأذى، فإنك مسئول عن سمعك وبصرك ولسانك، فلا تكن من الغافلين، وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
[الأعذار المرخصة في الغيبة]
إذا كان الأصل هو حفظ اللسان وعدم جواز الخوض في الإعراض فان العاقل يحافظ على لسانه، أما إذا دعت الضرورة لاستماع شيء مما رخص فيه كأن تريد أن تتظلم مما وقع عليك من سلطان غشوم أو جبار نهوم أو أردت تغيير منكر، أو تغيير المعاصي التي تذكر، أو تستفتي عن حال رجل شحيح، أو تحذر من حال منافق أو مبتدع فاسق، أو كان هناك من يجاهر بالمعاصي، فإنه في مثل هذه الحالة قد ورد الترخيص في السماع والجهر بالظلامة التي اقتضت التعريف، وفي ذلك يقول الخبير اللطيف: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً} وقد جاء في الحديث الصحيح أن هند بنت عتبة قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح فقال عليه الصلاة والسلام: (خذي ما يكفيك) . وجاء في كلام بعض الشعراء:
القدح ليس بغيبة في ستة … متظلم ومعرف ومحــــــــــــذر
ولمظهر فسقاً ومستفت ومن … طلب الإعانة في إزالة منكر
والعاقل لا يكون حاله كحال من وصفهم الشاعر بقوله:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به … وإن ذكرت بسوء عندهم أذنُ