مكاننا من الإعراب

#مكاننا_من_الإعراب

د. #هاشم_غرايبه

بينما كنت أحضّر مقالة عن لغتنا الجميلة غلبني النعاس، فرأيت فيما يراه النائم “سيبويه” شيخ النحاة وإمام العربية، بادرني بالسؤال: كيف الحال؟
ظننت سؤاله امتحانا في النحو فأجبته: الحال يأتي منصوبا في الغالب، قال: ليس ذاك ما سألتك عنه بل عن حال الأمة في هذه الأيام، فقلت: أما أمتنا فمنصوب عليها، قال: هذا ليس محلا من الإعراب، أم أنكم غيرتم قواعد اللغة بعدي؟!، قلت: المعذرة منك يا شيخنا، فلم نغير في ما وضعته لنا، لكن هذه صفة حالتنا بعد إذ أمسينا ولا مكان لنا من الإعراب بين الأمم.
اكفهر وجهه وصاح بي: ما الذي أوصلكم الى ذاك، لقد غادرت دنياكم وأنتم الفاعل المرفوع القامة بين كل الناس، وتقول أنكم غدوتم مفعولا به يقع عليه الفعل ولا يملك له رداً!؟؟.
أجبته منكسرا: بل أكثر من ذلك يا سيدي، فقد أصبحنا في وضع المضاف إليه مجرورين نلهث وراء من يسبقنا غير آملين في مجاراته ناهيك عن سبقه.
سألني: من الفاعل الذي أوصلكم الى ذلك؟؟، قلت: مبني للمجهول، قال: ألا تعلم أننا لا نقبل التجهيل في لغتنا، فالبلاغة تتأتى بالتعريف وأقله التلميح، قلت: الجميع يعرف الفاعل لكن في فمي ماء، قال: فهمت مرادك، فطالما كانت مصيبة الأمة في أولي أمرها، ولكني لا أقبل لكم عذرا بعد إذ اعتبركم الخالق العليم خير أمة أخرجت للناس.
قلت: لقد فقدنا هذه الصفة بعد أن تخلينا عن أسباب تحققها، فقال: ما بال أقوام كنا نعدهم من الصالحين، أين هم ممن ذكرت؟؟.
قلت: أظنك تعني العلماء والمصلحين والدعاة، مصيبتنا في هؤلاء أعظم، فقد انخرطوا في واو المعية مع السلطة، واستمرأوا دورهم كمعطوف على التوالي بدلا من كونهم جملة معترضة، واستخدموا لا النافية لظلم السلطان لتسويغ فعله، بديلا عن لا الناهية للمنكر لدى السلطان الجائر لردعه، واقتصر دور المفتي على توكيد احكامه، أما الدعاة فانصب همهم على البحث عن مفاسد جمع المذكر والمؤنث، واختصوا تاء التأنيث بالمعاصي والشرور، وانشغلوا بنواقض الوضوء عن نواقض الإيمان، في حين أن العلماء المصلحين غيبتهم السجون والمنافي، فيما استفرد المنافقون منهم بالمناصب والجاه.
قال: آه يا بني، قد أوجعت قلبي، فلا تحدثني بعد في قواعد اللغة، يبدو أنكم تمسكتم بالعربية وتركتم الدين.
خشيت أن أزيد غمه إن بينت له الحقيقة وهي أننا ضيعنا الإثنين، فقلت: اطمئن يا شيخنا فما زال الدين عامرا نفوسنا إلا من قلة لا يضرنا ضلالهم.
قال : فما خطبكم إذن؟ ألم تعلموا أن الدين روح الأمة وسر فلاحها.
قلت : تغير المراد من المصطلحات في عصرنا، فقد منعوا تدخل الدين بشؤون الناس، وجعلوه مجرد تأدية الشعائر وطاعة ولي الأمر الفاسق، أما من يعتقد بدور الدين في تنظيم حياة الناس فيطلقون عليه مسمى (الإسلامي) ويحاربونه، وأما الذي يطالب بتطبيق منهج الله فيسمونه متطرفاً ويلاحقونه، أما إذا أحسوا به ساعيا لذلك مصرا عليه فيعدونه إرهابيا، وعندها تتعاون كل استخبارات العالم على البحث عنه وقتله من غير محاكمة ولا توجيه تهم.
قال: لقد أحبطتني يابني فما انتهيتم إليه قد بات مؤلما، ليتني لم أعرف عن حالكم ما عرفت، لكنني أوصيك بأن تبلغ قومك بأنني لم أكن عربي النسب، لكنني أحببت العربية وخدمتها أكثر من العروبيين، ليس إعجابا بشجاعة عنترة ولا بكرم حاتم، بل لأن انتمائي الى منهج الأمة كان مقدما على أي انتماء آخر، وقل لهم: قدر أمتنا أنه من ابتغى العزة بغير ما أمر الله ذل..وظل يردد العبارة الأخيرة، فيما طيفه يتلاشى وأنا أناديه: أرجوك يا سيدي ما العمل؟، لكنه توارى غير مصغ لتوسلاتي، وأفقت من النوم منهكا جاف الريق، وألغيت ما كنت كتبته سابقا، مستبدلا به هذه.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى