مفهوم المواطنة في الإسلام / د . هاشم غرايبة

مفهوم المواطنة في الإسلام
في ندوة تضمنت هذا الموضوع ، قال لي محاوري القومي معتقدا أنه انتصر لفكرته التي تدّعي أن الإسلام لا يعترف بمواطنة غير المسلم : هل الإسلام يقدم الولاء للدين أم الإنتماء للوطن ! .
أجبته : لو أنك خُيِّرت بين الصدق والإستقامة ، لا شك أنك ستختارهما معا ؟ لأنك تعرف أن كلا منهما يهدي للاخر ولا يحل محله ، وكذلك فإن الولاء للدين يهدي الى كل خير ويسمو فوق كل انتماء ليوصل النفس البشرية الى أرفع درجات الإنتماء وهو التقوى ، الذي من أبرز سماته محبة الخير للناس جميعا ، أي الأممية الإنسانية العابرة للحدود السياسية .
على مر تجارب الإنسان المجتمعية ، شكلت الجماعات على مختلف درجاتها وسيلة لحماية الفرد وتأمين احتياجاته ، بدءاً من الأسرة فالعائلة فالقبيلة فالأمة ، وعندما استقرت التجمعات البشرية الزراعية ثم الحضرية في مناطق محددة ، اعتبرتها حمى لا ينازعها على ملكيتها إلا كل معتدٍ أثيم ، فصار الإرتباط بهذا الذي دعي وطنا ، حقا مقدسا ومُقدَّرا من الغير لأن الوطن بات حقاً للأجيال اللاحقة .
من هنا جاءت الوطنية ، وصار من مقتضياتها التوافق وعدم التنازع بين المواطنين لغايات منع استحواذ بعضهم على حقوق البعض ، لذلك باتت الوحدة الوطنية وسيلة لذلك وليست غاية بحد ذاتها ، إذ أنها مصلحة مشتركة لجميع المواطنين فهي تحقق الوفاق بين مختلف الفئات التي تتقاسم ملكية هذا الوطن ، وبغيابها تدب النزاعات ويأكل الأقوى حق الأضعف .
الإسلام تشريع إلهي ، أي أنه ينظم العلاقات المجتمعية على كل المستويات ، ولجميع الأمم ، بدءا من علاقة الفرد مع ذاته بحيث يبدأ بالتقوى الذي هو صلاح فردي ، ثم يرتقي مع الجماعة أي التقوى الجماعي عن طريق تحكيم شرع الله كونه يمثل العدالة المطلقة ، وعندما تشترك الجماعات في الأنتماء الى بقعة جغرافية محددة تسمى الوطن ، يكتسب مجموع هؤلاء مسمى : مواطنين .
هنا تصبح العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات متطلبا أساسيا لإبقاء ارتباطهم بالوطن قائما ، وليس فقط المصلحة المشتركة ، لأن تناقض المصالح داخل هذه الجماعة قد يولد ضياع حقوق البعض ، فالظلم في الوطن اغتراب ، وحينها يصبح متطلب العدالة مقدما على الإنتماء الوطني ، فقد يهجر المرء وطنه للعيش في وطن الغرباء إن كان يحقق له العدالة ، إذ تصبح عندها الغربة وطنا إن وفرت له الحياة الكريمة .
الحرية هي إحدى منتجات العدالة ، لذا يقدم متطلب الحرية على المواطنة إن تعارضتا ، ولهذا هجر المسلمون الأوائل موطنهم ( مكة ) الى الحبشة ثم الى يثرب مرة أخرى ، لأنهم حرموا حرية المعتقد في وطنهم .
هنا نصل الى المسألة المهمة : أيهما الأقوى ارتباط المرء بالوطن أم بالعقيدة ؟
مما أسلفنا يتبين أن المرء قد يهجر وطنه مرغما ، ويغادره متألما وكأنه يتخلى عن قطعة من جسده ، لكنه لا يتخلى عن عقيدته مهما كان الثمن ، لأنه تمثل حريته في اختيار منهجه ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب مكة وهو يغادرها مهاجرا : “اللهمَّ أنتِ أحبُّ البلادِ إلى اللهِ ، وأنتِ أحبُّ البلادِ إليَّ ، ولولا المشركونَ أهلَكِ أخرجوني لمَاَ خرجتُ منكِ ” .
يعتبر الإسلام الوطن حقا مقدسا والدفاع عنه إن تعرض الى عدوان فريضة واجبة ، وعلى كل مواطن أن يؤديها إن تطلب الأمر منه ذلك ، ويعتبر من قُتل دون وطنه شهيدا تماما كمن يدافع عن عقيدته .
إن كل من يقطن هذا الوطن هو مواطن بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه ، ما يحتاج للتوضيح هو أن المسلم ملزم بالدفاع عن حياض الأمة التي هي وطن وعقيدة متلازما الإرتباط فلا يمكن الفصل بينهما ، فالعدوان على الأمة يكون من عدو ذي عقيدة مناقضة لأن المسلم لا يغزو بلدا مسلما ، وعادة ما يكون العدوان طمعا في خيرات الوطن و لتغيير عقيدتها معا ، لذلك فالمواطن غير المسلم اختار أن لا يتبع عقيدتها وفضل البقاء على عقيدته ، يعني ذلك أنه غير مقتنع بها ، فكيف يُطالب بالدفاع عما لا يقتنع به ؟ .
من هنا جاءت فلسفة الجزية لغير المسلم ، فهي مبلغ مالي يؤدى للدولة تعويضا عن الإعفاء من الجهاد ومن الزكاة ، ولولا ذلك لكانت مواطنة غير المسلم مميزة عن مواطنة المسلم ، لكن بذلك التعويض تتحقق العدالة والمساواة بينهما .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى