معركة الوعي

#معركة_الوعي

د. #هاشم_غرايبه

عندما تتحدث مع معارض لتحكيم لشرع الله في الدولة، يقفز فورا الى السؤال الساذج: أي إسلام تريد أن تطبقه.. الشيعي أم السني، وأي منهج ستتبعه: الإخوان المسلمين أم التحريرين أم السلفيين، وأي مذهب ستعتمده: الشافعي أم المالكي أم .. الخ.
السائل لا يسأل استفسارا، بل يعتقد أنه بذلك قد رمى الإسلام بمقتل، وأنه قد أثبت أنه فكر خلافي ليس هنالك توافق عليه حتى بين أتباعه.
لقد بحثت عن أصل هذا الطرح، الذي يدل على سطحية الفهم، فوجدت أنه جاء به مستشرقون متعصبون ضد الإسلام، ثم جاء علمانيو العرب وملاحدتهم فأخذوه عنهم معلباً من غير تمحيصه.
عيب الفكرة أنها لم تفهم أن التعددية الفكرية في الإسلام هي ميزة إيجابية، وليست دلالة اختلافات في المعتقد، فسمة الفكر الأيديولوجي الإنساني هو التوسع الدائم، لكنه تفرع من الأصل والذي يعني أن الفروع تلتقي في أصل واحد وتتغذى من الجذور ذاتها، فيما المعتقدات المبنية على دوافع شوفينية فاسدة أو عقائد منحرفة عن الفطرة كالفاشية والنازية والشيوعية، غير قابلة للتفريع لأنها مبنية على فكرة محددة لا تقبل التطوير ولا الإجتهاد.
الإسلام فكر يغطي كل مناحي ومتطلبات البشرية على تغير الدهور، لذلك فهو قابل للتطور والموائمة مع كل الظروف والمتغيرات.
إن ظهور الملل والنحل والإتجاهات الفكرية والسياسية والفقهية المختلفة هو دلالة قوة هذا المعتقد الذي يمكنه جمع كل التناقضات في إطار حرية فكرية ناضجة، تتعارض وتتجادل في الفرعيات، لكنها تلتقي في الأصل الواحد، فلم تعرف جماعة مهما كانت صغيرة، أنها خرجت عن أصول الدين أو بدلت في أساسيات العقيدة.
فمرجعيتها جميعا الكتاب والسنة، ولا ترجع واحدة الى غيرهما، ومتطابقة في التزامها بأركان الدين، فكلها تصلي الصلاة ذاتها، وتتوجه الى القبلة نفسها، مهما تعددت القوميات واللغات والأمكنة.
لعل من أشهر من بحث في الجماعات والفرق الإسلامية هو “الشهرستاني”، فيقول في كتابه “الملِل والنحل”: “فإذا وجدنا انفرادَ واحدٍ من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد، عددنا مقالته مذهباً، وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجاً تحت واحد ممن وافق سواها من مقالته، ورددنا باقي مقالاته إلى الفروع، التي لا تُعد مذهباً مفرداً”. وحسب تصنيفه فيدل المذهب على مجموعة الأفكار والمقالات، في حين تدلُ الفرقة على مجموعة من الناس، وأن الفروع في المذهب والفرقة تسمى الملِة أو النحَلة.
ظهرت في اللغة المعاصرة مصطلحات أخرى تطلق على الفرق أو المذاهب الأساسية، وعلى وجه الخصوص الفكرية والسياسية منها، كمصطلح التيار أو الاتجاه أو الحزب في بعض الأحيان، لكن كل ذلك تفريع وليس انشقاقا.
الإنشقاق الرئيس هو التشيع، وأصله سياسي وليس فكريا، وكان خلافا على من يتولى الحكم، لكن (الشعوبيين) وهم الزعامات القومية الفارسية الذين ظلت الأحقاد القومية تدفعهم للإنتقام من ضياع ملك كسرى، وبهدف احداث شرخ في الأمة يضعفها، هؤلاء لم يكتفوا باغتيال الخليفة الثاني، بل واصلوا تآمرهم من خلال ادعاءهم محبة آل البيت.
وكان من الممكن أن ينتهي هذا الإختلاف والتحزب، مثلما انتهت حركات أخرى معارضة لنظام الحكم كالخوارج مثلا، لكن المغرضين عمقوا الخلاف بجرح كربلاء الغائر الذي كان نتيجة لإغرائهم الحسين بالقدوم لنصرته، ثم تخلوا عنه وخذلوه فاستشهد، واستغلوا هذه الجريمة المنكرة للتحريض، وظلوا الى اليوم يحيون ذكراها بهدف نكأ الجراح.
ولإدامة الانشقاق جعلوه عقديا، فاستحدثوا فقها ليس من صلب العقيدة، وهو أن الإمامة والعلم والعصمة وراثية، وموقوفة على ذرية علي بن أبي طالب.
أما الجماعات الصغيرة التي تحسب على الإسلام، مثل: البهائية والأحمدية والقاديانية، والتجمعات المغلقة مثل الدروز والعلويين والإسماعيليين، فهي ليست منه، لأنها تتبع عقيدة خاصة.
هكذا يتبين لنا أن الإسلام عقيدة ثابتة، أصلها راسخ وهو التوحيد، وجذورها الكتاب والسنة، لكنه ليس منغلقا بل متاح للمجتهدين ليتفرعوا منه وليس من خارجه، والدين يصبغ هؤلاء بسمته، لكن أفعالهم لا تصبغ الإسلام.
فعندما تتوفر العزيمة والإرادة لدى المخلصين لقيام دولة اسلامية، فلن يأخذوا حتما من التجارب التاريخية للمسلمين المنحرفين عن منهج الله، بل عن أصل الدين، والذين استقاموا، ويعززوها بتلاقح معاصر مع تجارب الناجحة للأمم الأخرى، فيكون المنتج دولة مثالية، ترتقي بالأمة في زمن قياسي كما الدولة الراشدة.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى