مطلوب #رئيس #مؤسسة_أكاديمية (1)
د. حفظي اشتية
سقطت سهوا بضعٌ من حكايات ألف ليلة وليلة، وبُعثت من سباتها من جديد.
تقول شهرزاد:
كان في جزيرة شهريار مؤسسة عريقة هي عماد التربية والتعليم لأملها الواعد وشبابها الصاعد، تضم عشرات آلاف الطلاب، تناوب على رئاستها كوكبة من أهل الحصافة، غادر آخرهم موقعه مسربلا بالشرف وحسن السمعة، فشغر المنصب، فأصاب شهريار همّ ممضّ، وقلق مقضّ، فعلى هذه المؤسسة كل التعويل في تهذيب وتنشئة الجيل، ولا بد من التأني والحذر والتدقيق للاهتداء إلى من يليق بهذه المهمة الجليلة.
اجتمعت شهرزاد مرارا مع أهل الحكمة والرشاد، وتوصلوا إلى مجموعة من الشروط المطلوبة قرأتْها على مسامع شهريار ليطمئن باله، وتهدأ أحواله:
ــ أن يكون الرئيس الموعود حسن السيرة نقي السريرة، لا يخفي خلاف ما يظهر، نظيف اليد، عفّ اللسان، سديد الرأي، حكيم القرار، حاذقا حازما حاسما في مواجهة الظلم، أريبا فطنا ذكيا في مواجهة أهل النفاق والمصالح الخاصة، حريصا على سمعة مؤسسته، الضعيف عنده قوي حتى يأخذ له حقه، والقوي ضعيف حتى يقتصّ منه، صادقا في كلامه، وفيّا في وعوده، مواجها غير غدّار ولا مخادع، أمينا لا يغلّ ولا يخون.
ــ أن يكون خريج إحدى الجامعات العتيقة المرموقة وبتفوق ملحوظ، كتب أبحاثه بأمانة ونزاهة وأجيزت من علماء تحلّوا بالعدل والموضوعية، وحصل على ترقياته بوضوح تام وشفافية، وعُومل كما يعامل عامة خلق الله دون توسط أو تدخل، بل كانت جدارته الحقيقية وحدها هي التي تحمله وتنقله من درجة إلى درجة أعلى منها، والعالم المتحضر يشير له بالبنان، ونتائج أبحاثه تنعم بها البشرية في كل مكان…..
ــ أن يكون متشرّبا بالثقافة العربية الإسلامية، يدافع عن وطنه وأمته، قوي الشكيمة في مواجهة الأعداء، رفيقا رؤوفا بأبناء جلدته، كبيرا لا متكبرا، لا يعرف الحقد إلى قلبه سبيلا، ترنّ في أذنه دوما مقطوعة المقنع الكندي في كريم أخلاق سيد القوم، ولا سيما قوله:
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ وليس كبير القوم من يحمل الحقدا
ــ أن يفتح بابه على مصراعيه لكل ناصح أمين، ويصدّ كل معتد أثيم همّاز مشّاء بنميم، يخصص جل وقته لرفعة مؤسسته وصالح رعيته، لا يبحث عن مجد شخصي، ولا يتقافز خلف التصنيفات الوهمية فيخف وزنه ويفقد توازنه، ويستنيم إلى أحلام الفضاء بينما مؤسسته تغرق في مرارة الواقع، ولا يلهث وراء الإعلام ليسوّق الزيف والأوهام، علاقاته قائمة على المصلحة العامة، لا يوظف تعييناته وترقياته ومناصبه في لملمة الأنصار والمؤيدين.
ــ أن يكون رفيع الشأن لا يُرى إلا حيث يليق به من مقامات العلم والمكرمات، لا تجده يرخص نفسه في تلبية دعوات الولائم المزيفة المداهنة والمأدبات والحفلات، ورحلات المساج، ولا يتقبل الهدايا المغمسة بالمآرب المبتزة المبيّتة، ولا تألفه أروقة المحاكم لا طاردا ولا مطرودا، لا شاكيا ولا مشكوا منه أو عليه، يعرف لنفسه قدرها، ويستلهم قول البحتري:
صنت نفسي عمّا يدنس نفسي وترفّعت عن جدا كل جبس(الجدا هو العطاء، والجبس هو اللئيم الخسيس)
ــ أن يحرص على رفعة سوية مجالس الحاكمية، والارتقاء بمستواها، ليكون كل منها ممثلا أمينا لصوت الحق والعدل والعلم والحكمة، ينتقي عمداءه بعناية وافرة، يراقب عملهم بفطنة وافية، يقيّم أداءهم، ويقوّم اعوجاجهم، وينمّي شخصياتهم، ويشجعهم على الحوار الحرّ الحميد، والنقد البنّاء الرشيد المفيد، ولا يقبل منهم الاكتفاء بهز الرؤوس إلى أسفل، وحمّى السباق في ساحة التملق والنفاق، فيستشري الباطل، ويتمدد في غياب الرجال الأفاضل، ويصدق قول شاعر القطرين خليل مطران”بتصرف قليل”:
ما كانت الرعناء ترفع رأسها لو أنّ في هذي الجموع رجالا
ــ أن يكون صبورا حليما لا يستعدي أحدا، إذا طالبه صاحب حق بحقه بادر إلى الوفاء به، ولا تأخذه العزة بالإثم فيصر على الباطل، ويمنع الحق، ويلفق التهم فيصغر وهو الكبير، ويجعل نفسه خصما لضعيف قوي بحقه، فتقل هيبته، وتتبدد مروءته، ويخوض معركة هو الخاسر فيها وإن فاز، فالثبات على المبادئ هو الفوز المبين وإن عظمت الخسائر، والمتفرعن وإن وجد هامات ذليلة تطأطئ، وقامات قميئة تنحني، سيجد حتما فئة أخرى مختلفة تواجه الظلم قولا وعملا، وتصمد في المواجهة، وهي تعلم يقينا خطورة ما هي مقدمة عليه، لكنها تصرخ جهارا نهارا في وجه من يظلم :
أيها الفُرَيْعيْن، ” اقضِ ما أنت قاضٍ “، القرار بيدك أن تظلمنا وتؤذينا، والقرار بأيدينا ألّا نلين، أو نقبل الضيم المهين، قالها عزيز النفس قديما وكررها من بعده كثيرون، كل منهم يمضي إلى قدره رافع الرأس، ثابت الجنان، لا تهتز منه شعرة، ولا يرفّ له جفن، وهو يتمثل :
لا تسقني كأس الحياة بذلة بل فاسقنِي بالعز كأس الحنظل
وهنا : أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، ومضى شهريار إلى أحلامه هانئا هادئ البال بأن مؤسسته العظيمة ستجد بهذه الصفات فارسها الذي يستحقها.