في التعصب المتسلسل / يوسف غيشان

في التعصب المتسلسل
من الناشيونال جيوغرفي تعلمت الكثير عن الأرض ، وعن عالم الحيوانات ، ووصلتني الرسالة: أن عالم الحيوان أكثر عدالة و(إنسانية) من عالم الإنسان، لأن الحيوان يقتل من أجل الأكل والحفاظ على النوع فقط لا غير ،وأن عملية القتل تلك تتم من خلال توازن بيولوجي طبيعي يحفظ الخطوط والعلاقات في عالم الكائنات الحية، ويجعل الأرض مكانا صالحا للعيش للجميع.

أما الإنسان ، فلا داعي للحديث حول الموضوع ، خشية إتهامي بجلد الذات ، فنحن (ما يسمى بالبشر) نقتل في كثير من الأحيان لمجرد المتعة ، أو للقضاء على الملل والبحث عن المغامرة ، وأحيانا نقتل لمجرد اللعب ، ناهيك عن القتل من أجل مكاسب مادية تافهة، نهدر من أجل سواد عيونها حيواتنا وحيوات الآخرين ، ونتحول الى وحوش مجنونة بلا مبرر.

من ثقافتي التلفزيونية المسطحة تلك تعلمت الكثير عمّا يسمونة، في أفلام الأكشن بالقاتل المتسلسل، وهو قاتل يشعر بالمتعة خلال إقتراف جريمته الأولى، فيشرع في اقتراف جرائم مشابهة تحمل نمطا معينا ومحددا ، كأن يقتل الشقراوات اللواتي يشبهن أمه مثلا، أو يقتل فتيات الشارع ، او المشردين، طبعا – حسب الأفلام- كان المحققون يتوصلون اليه، فيقتلونه أو يعتقلونه.
في الكثير من تلك المسلسلات، كان القاتل يشعر بوخز الضمير ، لكنه يعجز عن منع نفسه من القتل، لذلك كان يوصل إشارات لا شعورية (أو شعورية) للمحققين، من أجل مساعدتهم على القبض عليه ،ومنعه من إقتراف جريمته التالية، لا بل أن بعض هؤلاء كانوا يكتبون رسائل واضحة ومباشرة، يتركونها خلفهم، في موقع الجريمة، ترجو من المحقق أن يقبض عليهم كأن يكتب القاتل على المرآة، بدم الضحية،: (أرجوكم أردعوني ).

كل مقدمة إبن خلدون هذه من أجل أن اقول لكم بأن هناك ما يسمى ب(التعصب المتسلسل) وهو يشابه إلى حد كبير القتل المستسلسل ، لا بل هو أسوأ منه بكثير ، لأنه يؤذي
المجتمع بأكمله ، ويمتد أذاه عبر الأجيال ، وليس الى عدة أفراد يعدون عىل أصابع اليد الواحدة والنصف، وسبب اهتمامي بالتعصب المتسلسل هذا أننا نحن، أبناء الضاد وأخواتها، نعاني، بشكل شبه جماعي من هذا التعصب المستلسل ، ونتقاسم الأدوار فيه جميعا ..بين المجرم والضحية ، وأحيانا نتبادل هذه الأدوار، دون أي إحساس بالغرابة أو حتى بالظلم.

أول تعصباتنا تكون في مجال الجنس، حيث يتعصب الرجل ضد المرأة ويعتبرها كائنا دونيا ، لكنه لا يتورع عن التغزل بها وتحويلها الى كائن محيّر بين الملائكة والبشر ، وبعد أن ينال مراده منها يعيدها الى أسفل سافلين، دون أي إحساس بوخز ضمير أو بنكرياس.

ثم تكرّ لائحة التعصبات في متوالية مجنونة لا تبقي ولا تذر شيئا من الدولة المدنية (إن وجدت)، فنتعصب أولا للعائلة، ثم للحمولة، ثم للفخد، ثم للعشسيرة، ثم للمحافظة،ثم للإتجاه(شمالي جنوبي شرقي عربي)ثم نتعصب للدولة ثم للعروبة ثم للدين، من خلال نظرة دونية قاتلة للآخرين .

في الواقع فإن لدى جميع شعوب العالم دوائر تعصبهم ، لكننا نأخد دوائر تعصبنا بجدية وإنفعالية ، ونحن على استعداد للقتل- بدون تفكير- في سبيل أي دائرة من هذه الدوائر.
ولا يسبقنا في دوائر التعصب تلك، سوى اليهود الصهاينة ، وهؤلاء ليسوا مقياسا للشعوب الحقّة.

لا بل،يتميز اليهود عنا بأنهم استطاعوا أن يبنوا دولة علمانية مدنية ديمقراطية(لليهود فقط) تتعايش مع تعصبهم وعدوانيتهم وإستعلائيتهم. أما نحن فإن سلسلة تعصباتنا المتسلسة تلك تضرب في عصب الدولة المدنية ، فالمتدين – حتى المتدين- يعود لتعصباته الدنيا عند أول تجربة ، وكذلك يفعل القومي والشيوعي والعلماني والليبرالي .

وليس أخرا
سنفشل دوما في بناء الدولة المدنية، ما دمنا عبيدا لتعصبنا المتسلسل.
ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ليست الأمة العربية بكافة اطيافها وألوانها اكثر تعصب من باقي الامم فتعصب الشعب الألماني كلّف البشرية اكثر من ستين مليون قتيل فقط في الحرب العالمية الثانية.
    تعصب الشعب الياباني شعب الله المختار في شرق اسيا لم يقضي على اليابان فحسب بل دمر شعوب اخرى.
    تعصب الاوروبي لعرقه ولونه كلّف البشرية على مدى العصور ملايين الضحايا فهو ما زال يحاضر شعوبنا المستعمرة في اخلاقيات وفضائل التنوير وفعلياً يتعامل مع البشر بعقلية التدمير والقتل ماتخلى عن ابسط القيم الانسانية والأمثلة كثيرة
    والحديث يطول التعصب عند الشعوب
    ما اريد قوله ان هناك أسباب كثيرة لفشل الشعوب العربية في تأسيس دولة مدنية واقل هذه الأسباب مفعول هو تعصبها المتسلسل المذكور بالمقال
    فاثر اكتشاف البترول على سبيل المثال في المنطقة وجعلها محل النهب والانتهاز في الحيلولة دون قيام دول مدنية اكبر بكثير من اثر تعصباتنا والتي هي أصلا حاصل لضروف معقدة أكثرها خارجة عن إرادة شعوبنا
    فارحمنا الله يخليك بكفينا الجزيرة والعربية وصواريخ أميركا

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى