مشروعية إضراب المعلمين: دراسة قانونية تحليلية

مشروعية إضراب المعلمين: دراسة قانونية تحليلية
المحامي الدكتور: حازم سليمان توبات
أستاذ القانون الدستوري المساعد في جامعة جدارا

يُعّرف الإضراب بأنه التوقف الجماعى المتفق عليه لكل أو بعض العاملين فى المرفق العام أو أي مرفق أخر بهدف تحقيق مطالب مهنية أو مادية مشروعة محددة سلفاً رفضت الإدارة أو صاحب العمل تحقيقها. والحق في الإضراب هو من الحقوق الإجتماعية والإقتصادية المرتبطة بعدد من حقوق الإنسان المعترف بها دولياً ووطنياً، فهذا الحق يرتبط إرتباطاً وثيقاً وهو نتيجة حتمية للحق في حرية التجمع والحق في حرية التعبير المكفولة في الدستور صراحةً. من جانب آخر يعد هذا الحق مظهراً من مظاهر التحرر من الرق والعبودية ووسيلة لرفض الإستغلال والإضطهاد التي قد يتعرض لها الموظف من قبل الإدارة العامة وخاصة في ظل عدم وجود رقابة فعّالة على قرارات وسلوك الإدارة، فمن حق الموظف أن يتمتع ببيئة عمل مناسبة قائمة على العدل والمساواة وأن يتناسب الأجر الذي يتقاضاه والإمتيازات الممنوحة له مع مقدار وأهمية الجهد الذي يبذله. وبالتالي فإن إقرار هذا الحق هو جزء لا يتجزأ من مفهوم الديمقراطية والعدالة، وهو بالتالي يشكل وسيلة رقابية فاعلة على أعمال الحكومة، كذلك فإن ممارسة الإضراب هو وسيلة ضرورية لتفعيل دور النقابات وممارسة الحقوق النقابية بصورة فعّالة والخروج من الدور الشكلي للنقابات إِلى الدور الفاعل والضاغط لتحقيق المطالب المشروعة للأفراد المنتسبين لهذه النقابات.
في المقابل فإن إضراب الموظف العام قد يترتب علية المساس بمبدأ أساسي من مبادئ الإدارة وهو مبدأ حسن سير المرافق العامة بانتظام واطراد وقد يؤدي إلى إحداث خلل في عمل المرافق العامة وبالتالي في الخدمات التي تقدمها هذه المرافق لأفراد المجتمع وخصوصاً الخدمات الأساسية التي لا يمكن الإستغناء عنها، وقد يترتب عليه كذلك حدوث خلل في النظام الإجتماعي والإقتصادي للدولة ككل، لذلك لا بد من وجود قواعد قانونية تنظمة بطريقة تحقق التوازن بين مصلحتين متقابلتين هما حق الموظف في التعبير عن رأيه لتحقيق مطالبه المشروعه وحق الإدارة في المحافظة على حسن سير المرافق العامة.
وقد اعترفت المواثيق الدولية بالحق في الإضراب وأفردت له نصوصاً خاصه تُقره وتُبين أسلوب ممارسته. فتم ُإقرار هذا الحق بموجب المادة (8) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتي صادقت عليه الاردن وأصبحت طرفا فيه، حيث تنص هذه المادة على أنه “تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة حق الإضراب، شريطة ممارسته وفقاً لقوانينها الوطنية “.
ومما يجدر الإشارة إليه إن المواثيق الدولية والإقليمية التي صادقت عليها سلطات الدولة تعتبر جزءً من نظامها القانوني، ويجب على سلطات الدولة أن تقوم باتخاذ التدابير التشريعية اللازمة للوفاء بالتزاماتها بموجب هذه المواثيق عن طريق تعديل القوانين النافذه لتتلاءم مع هذه الالتزامات أومن خلال سن قوانين جديده، وهذا ما نصت عليه تنص الفقرة 2 من المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966. ومما يؤيد هذا القول إن المادة 24 من القانون المدني الأردني تنص على أن أحكام القانون المدني السابقة لهذه المادة لا تطبق إذا تعارضت مع معاهدات دولية معمول بها في الأردن، ورغم إن هذا النص لا يمكن تعميمه لأنه يقتصر على عدد محدد من الأحكام القانونية ، إلا انه يمكن الإستلال به للدلالة على سمو المعاهدات الدولية التي صادقت عليها الأردن على القوانين الوطنية. من جانب آخر فقد استقر الإجتهاد القضائي في الأردن على إنه إذا تعارضت معاهدة دوليه مع قانون الوطني يكون للمعاهدة الدولية الأولوية في التطبيق . وقد تأكد هذا الموقف من خلال التقارير الرسمية الأردنية المقدمة إلى منظمات حقوق الإنسان، فعلى سبيل المثال ، في دورة لجنة حقوق الإنسان التي عقدت في جنيف في الفترة من 11 إلى 29 تشرين أول لعام 2010 وفقا لقوانينها الوطنية أكد مندوب الأردن أن الأردن ملتزم بتنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وأكد كذلك بأن الصكوك الدولية التي صادقت عليها حكومة الأردن تعتبر جزءً لا يتجزأ من التشريعات الوطنية وتسمو على القوانين الوطنية النافذة.
نص الدستور الأردني على حقوق الإردنيين وحرياتهم في الفصل الثاني في المواد من 5-24 إلا أن هذه النصوص الدستورية لم تتضمن أحكاماً صريحة تُعطي الأردنيين الحق في الإضراب بل أشارت لهذا الحق بشكل ضمني في المواد (15، 17,16 ). فالمادة (15) من الدستور تنص على أن “تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون” . فهذا النص كفل للأردنيين الحق في التعبير عن آرائهم بكل وسائل التعبير ضمن النطاق الذي يحدده القانون، وكلمة الأردنيين هنا جاءت مطلقة لتشمل لجميع الإردنيين سواء موظفين أم غير موظفين والمطلق يجري على إطلاقة ما لم يتم تحديده بموجب قاعدة قانونية من نفس مستوى القاعده القانونية التي أقرته. كما أن هذا النص لم يحدد وسائل التعبير عن الرأي على سبيل الحصر بل جعلها مفتوحة لتشمل جميع وسائل التعبير المتاحة حالياً أو تلك التي قد تُتاح في المستقبل، لذلك يمكن اعتبار الاضراب وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي التي كفلها الدستور لجميع الإردنيين.
أما المادة 16 من الدستور فقد نصت على حق الأردنيين في التعبير الجماعي عن آرائهم ضمن حدود القانون، وتؤكد هذه المادة على حق الأردنيين في عقد الإجتماعات في حدود القانون وإنشاء النقابات والجمعيات والأحزاب السياسية ، بشرط أن تكون أهدافها قانونية وأساليبها سلمية. ويكفل الدستور في المادة 17 الحق في مخاطبة السلطات العامة ، وينص على أن ” للأردنيين الحق في مخاطبة السلطات العامة فيما ينوبهم من أمور شخصية أو فيما له صلة بالشؤون العامة بالكيفية والشروط التي يعينها القانون”.
لذلك ووفقا لهذه النصوص الدستورية والدولية يمكن القول بأن اضراب الموظف العام هو حق من حقوق الإنسان المكفولة دولياً ودستورياً والتي يجب تنظيمها بقانون يبين شروط وإجراءات ممارستها، شريطة ان يصدر هذا القانون عن السلطة التشريعية صاحبة الإختصاص الأصيل في التشريع، فلا يجوز دستوريا تنظيم حق مكفول بالدستور من خلال أنظمة أو قوانين مؤقته صادرة عن السلطة التنفيذية وهذا ما أكدته اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في التعليق رقم 34 لسنة 2011 على المادة 19 من العهد الولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث جاء في الفقرة 24 من هذا التعليق إن المقصود بالقانون هو القانون الصادر عن السلطة التشريعية.
ولكن للأسف فإن المشرع الاردني وعلى الرغم من إنه قد قام بالاعتراف وتنظيم حق الإضراب للعامل في القطاع الخاص بموجب قانون العمل إلا أنه لم يقم بذات الأمر فيما يتعلق بإضراب الموظف العام بل ترك الأمر على اطلاقه، مما يعتبر قصوراً تشريعيا ترتب عليه إختلال التوازن بين مصلحتين متقابلتين يجب التوفيق بينهما هما حق الموظف العام في التعبير عن رأيه لتحقيق مطالبه المشروعه من جانب وضرورة المحافظة على حسن سير المرافق العامة من جانب آخر. لذلك وتأسيساً إلى هذا القصور التشريعي فلا يمكن تحميل الموظف العام مسؤولية الإخلال بحس سير المرفق العام أو توقف المرفق العام عن تقديم الخدمات التي أُنشئ من أجلها بسبب الإضراب، فالموظف يمارس حق من حقوقه المكفولة دستورياً ودولياً ويعتبر هذا الحق مطلقاً لحين تنظيمه بنصوص قانونية تبين شروطه واجراءاته، وإذا كان هناك إخلال بحسن سير المرافق العامة وقصوراً في تقديم الخدمات التي أُنشئ من أجلها المرفق العام بسبب هذا الإضراب فإن مسؤولية هذا القصور تتحمله الإدارة العامة ممثلة بالحكومة لأنها هي المسؤولة دستورياًعن حسن سير المرافق العامة، وتنبع مسؤوليتها من منطلق إمتناعها عن إتخاذ أي قرار أو إجراء تضمن بموجبه حسن سير المرفق العام واستمرار تقديم الخدمات للمواطنيين.
أما القول بأن اضراب الموظف العام محظور بموجب المادة 68 من نظام الخدمة المدنية التي تنص على أنه “يحظر على الموظف وتحت طائلة المسئولية التأديبية الإقدام على ترك العمل أو التوقف عنه دون عذر مشروع يقبله المرجع المختص”، فإن هذه المادة لا يمكن الإستدلال بها على حظر إضراب الموظف العام، ذلك إن هذه المادة تتحدث عن الحالات الفردية التي يُقدم بها الموظف بصفة فردية على ترك العمل أو التوقف عنه دون عذر مشروع يقبله المرجع المختص ولا يمكن تطبيقها على الحالات الجماعية التي يتم بها التوقف عن العمل استجابة لقرار صادر عن نقابة ناشئة بموجب قانون لتحقيق مطالب مشروعة، من جانب آخر فإن الإقرار بأن هذه المادة تحظر الإضراب يعني الاقرار بجواز أن تحظر قاعدة قانونية أدني حق معترف به بموجب قاعدة قانونية أعلى وهذا مخالف لمبدأ دستوري مستقر فقهاً وقضاءً وتشريعاً يقضي بأنه لا يجوز لقاعدة تشريعية أدني أن تتعارض مع قاعدة تشريعية أعلى، ومخالف كذلك لمبدأ سمو الدستور الذي يعني سمو الدستور على غيره من التشريعات.
toubathazem@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى