مزاريب الوطن… حين تُصرَف الخيرات خارج البلاد

#مزاريب_الوطن… حين تُصرَف الخيرات خارج البلاد

#معاذ_الشناق
ناشط نقابي وسياسي أردني

ما إن هطلت أولى شتويات الموسم حتى غرقت شوارع عمّان وعدد من المحافظات، لا بالمطر وحده، بل بحقائق ثقيلة تجاهلناها طويلًا. الأمطار كشفت ما خبّأته الطبقات الإسمنتية وما غطّته الوعود السريعة؛ كشفت حجم الفجوات في الإدارة، وعمق الخلل في البنية التحتية، وثقل الإهمال الذي يتراكم سنة بعد أخرى. في قلب هذا المشهد، يتداول الأردنيون جملة تختصر الواقع ببلاغة:
“لو كل مسؤول أو فاسد وصل مزرابه مع مزراب البلد، لفاضت الخيرات والبركات، ولكن كلّ له مزرابه ويصب خارج الوطن.”

هذه العبارة ليست مجرد تعليق عابر، بل مرآة تكشف أصل المشكلة. فالمزراب الحقيقي للوطن هو منظومة العمل العام، التي يجب أن تصبّ فيها جهود كل مسؤول دون استثناء. وعندما تُفتح “مزاريب” جانبية تخدم مصالح خاصة أو شبكات خارجية، يتوقف تدفق الخير نحو الناس، وتبدأ الشوارع بالغرق، والمشاريع بالترنّح، والثقة بالتآكل. الفساد ليس خطأً إداريًا بسيطًا؛ بل ثقبًا وخرقًا واضحًا في قلب الحكومة، كلما اتسع خسرت البلاد أعوامًا من التنمية.

في هذه المرحلة الحسّاسة، لا يمكن التعامل مع ما حدث كحادثة عابرة أو “شتوية قوية”. ما جرى رسالة واضحة بأن البنية التحتية ليست مجرد خطوط إسمنت وأنابيب، بل انعكاس مباشر لسنوات من التخطيط، والرقابة، والمتابعة. المطلوب اليوم مصارحة وطنية شجاعة تُعيد ضبط البوصلة، وتضع معيارًا واحدًا لا يُساوَم عليه: المصلحة العامة فوق كل مصلحة. الشفافية في طرح الحقائق، والمحاسبة الفعلية المبنية على التحقيق المهني، ليست ترفًا؛ بل واجبًا وطنيًا لحماية ثقة المواطن وإعادة الاعتبار للعمل العام.

كما أن أحداث الشتوية الأخيرة تُعد فرصة لتصحيح المسار، لا لتبادل اللوم. الأردن يملك مؤسسات راسخة وكفاءات قادرة، وكل ما يحتاجه هو أن تُفتح الأبواب أمام العمل النزيه وأن تُغلق نوافذ الفساد قبل أن تتّسع. إعادة بناء الثقة تبدأ بإنجازات ملموسة، وبخطط واضحة، وبقرارات لا تسمح للهدر أو التجاوز. وعندما تتوحد الإرادة، وتعود “مزاريب” الوطن لتتصل ببعضها، يصبح الأردن قادرًا على تحويل كل قطرة مطر إلى حياة، وكل تحدٍّ إلى بداية جديدة تليق بأبنائه.

الوطن لا يطلب الكثير. يطلب فقط أن يصبّ الجميع في مزرابه، وأن تكون أولويته الأولى والأخيرة هي خدمة الناس. عندها وحدها ستفيض الخيرات كما يفيض المطر، وسيأتي الشتاء القادم ليغسل الطرق لا ليكشف العيوب، وتلمع معه وجوه الأردنيين وهم يدركون أن قوة الوطن في جعل النفع العام هو البوصلة، وأن المواطن هو أغلى ما نملك، وأن مصلحة البلد فوق كل اعتبار.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى