مذكرات خلف القضبان / روان ضياء

مذكرات خلف القضبان

كانت ليلةً شديدة البرودة من ليالي شهر كانون الأول حين جائتها آلام المخَاض، سارعت بالاتصال مع زوجها رغم ألمها ، إلا أنه هاتفه لم يجب، فقامت بطلب الإسعاف بعد عدة دقائق ، لم يكن ذلك الوقت هو وقت الولادة الطبيعي، إلا أن الآلام التي شعرت بها فاقت قدرتها على التحمل، فشعرت أن وقت الولادة قد حان، وهذا ما حدث بالفعل حين قام الطبيب بإخبارها بضرورة إجراء عملية قيصرية لها على الفور.
استيقظت صباحاً متسائلة عما حدث لها، وما هي إلا ثوانٍ حتى سمعت عبارة “مبارك وألف الحمدلله على سلامتك وسلامة التوأم”، لتظهر ملامح السعادة على وجنتيها، كانت اللحظة تساوي عندها حياة بأكملها، فهذه هي الولادة الأولى لها، مضى كل شي على ما يرام، فصحتها بخير وكذلك صحة التوأمان إلى جانب أن تكاليف المستشفى والولادة تم تغطيتها، إلا أن الشي الغريب بالنسبة للمرضات اللواتي اعتنين بها هو عدم حضور أي من الزوج أو الأقارب أو الأصدقاء إلى جانبها، شعرت بكافة علامات التساؤل والغرابة التي كانت تعلو وجه الممرضات، فتارةً يسألنها عن موعد قدوم زوجها أو والدتها، وتارةً أخرى يسألنها إن كانت مطلقة، بالإضافة إلى تسائلهم عن الشخص الذي تحمل تكاليف المستشفى.
لم تكن بوضع يسمح لها بالإجابة على جميع التساؤلات في ظل ظروفها الحالية، فهي ما زالت تعاني آلام الولادة إلى جانب رغبتها العارمة في البكاء، واشتياقها و حاجتها الملحة إلى والدتها التي توفيت منذ زمن.
غنى وفرح تلك أسماء الطفلتين، وربما كان اختيارها لهذه الأسماء تفائلاً منها بقدوم الفرح المفقود في حياتها.
مضى شهر كامل على ولادتها وهي لوحدها في منزل أخيها ، فزوجها لم يرغب برؤيتها بعد ولادتها الطفلتين، فهي لم تنجب ذكراً يحمل أسمه في الحياة، في حين أن أخاها المتزوج لم يستطع أن يحضر إليها ، إلا أنه هو الذي تبرع بنفقات ولادتها إلى جانب إحضاره ممرضة تزورها يومياً لمدة أسبوعين حتى تتحسن أحوالها، لم تكن تدرك ما نهاية زواجها، هل سوف تتطلق أم أنها سوف تبقى كالمعلقة مدى الحياة ؟ ورغم كل وحدتها وقسوة ما تعانيه إلا أن جزءاً منها كان يشعر بالسعادة التي قد يجهل سببها الكثير.
وما هي إلا أيام حتى جائها اتصال من أخيها يطلب إليها أن تعود إلى منزلها، كانت مستاءة جداً مما سمعته ، فكيف لها أن تعود إلى منزل زوجها الذي لم يزرها أبداً منذ ولادتها إلى الآن، استمر أخوها في مخاطبتها وخلق التبريرات لزوجها الذي لم يتنازل حتى بالاتصال بها أو بالمجيء لإعادتها إلى المنزل، وعلى الرغم من أن أخاها لا يعلم حقيقة الخلافات بينها وبين زوجها إلا أنه و بحكم العادات و التقاليد يرفض فكرة انفصالها عن زوجها و يعتقد بوجوب تحملها من أجل أطفالها .
عادت …. كان اللقاء به كالموت بالنسبة لها، احتضنها بعبارات الحب والغزل، إلا أنها لم تحدث أثراً في نفسها، ربما عادت بجسدها إلا أن قلبها لم يعد ولن يعود أبداً معها، ومضى ذلك اليوم بهدوء تام على الرغم من الضجة التي أحدثتها الطفلتان في المنزل و التي لم يعتد عليها.
باتت الأيام والسنوات التي تعيشها متشابهة، إلا أن صحتها بدأت تتدهور يوماً بعد يوم، في حين أن الفتاتين كانتا تكبران مع اختلاف شخصية كل منهما عن الأخرى، فغِنى كانت فتاة هادئة جداً وقلقة وخائفة دائماً ، في حين كانت فرح فتاة مرحة تحب اللعب والضحك أغلب الوقت على عكس شقيقتها التي ولدت قبلها بدقائق.
وعلى الرغم من تماثل سنهما إلا أن غنى كانت دائماً تعامل أختها التوأم وكأنها أصغر منها، فكانت تحميها دائماً وتخفي عنها الكثير من الحقائق التي لا يعلمها سوى هي ووالدتها، فهناك ذكريات مؤلمة مليئة بالدموع شهدتها غنى في الوقت الذي كانت فيه تقوم بإلهاء شقيقتها عن مشاهدة الحقيقة والواقع المرير، بينما كانت فرح ترقص وتلهو في عالمها الخاص.
مضت الأيام وكبرت الفتاتان وبدأ الخٌطاب يتهافتون إلى البيت، ورغم اختلاف رغباتهم وتضاربها، فغنى كانت تشعر بالحرقة فهي لا تريد الزواج أبداً إلا أنها تشعر بالخوف على أختها، في حين كانت فرح تحلم بالزواج وارتداء الفستان الأبيض وعيش الحياة الوردية التي كانت شقيقتها غنى تصورها لها.
كانت ليلة ثقيلة حين تقدم رجل يكبر الفتاتين بخمسة عشر عاماً يريد الزواج بإحداهن، فما كان من الأب سوى القيام بإدخالهما سوياً حتى يقوم الشاب باختيار الزوجة التي يرغب بها، ووقع الاختيار على شقيقتها فرح التي تحلم بهذه اللحظة.
بدأت الترتيبات من أجل إتمام حفل الزواج، فقد كان العريس يريد الزواج بأسرع ما يكون، وربما كان ذلك يزيد خوف والدتها و غنى ، إلا أن الكلمة الأولى والأخيرة هي للأب فقط.
كانت غنى بمجرد أن ياتي ذلك الرجل الغريب إلى بيتهم يزاد تحديقها إلى عينيه لعلها ترى من عينيه الشر أو الخير، إلا ذلك الأمر لا يعلمه إلا الله، ومضت الأيام وانتقلت أختها إلى بيت زوجها ، وأزداد خوفها عليها وحٌزنها على مٌفارقتها للمنزل ،كانت تسألها مراراً وتكراراً عن حالها، وحملت أختها بسرعة، بينما هي انتقلت للدخول إلى مرحلة الثانوية ، وكانت دعواها أن لا تعجب أحداً من الرجال مستجابة من الله دائماً.
كانت المرحلة الثانوية بالنسبة لغنى مرحلة مصيرية لتحقيق حلمها على الرغم من أنها تعلم أن والدها لا يريدها أن تنجح ولا يريد لها أن تكمل دراستها، فهو دائماً ما يردد على مسامعها أنه لن يستطيع تحمل تكاليف دراستها الباهظة، لذلك كان كل هدفها وغايتها أن تنجح بامتياز وتحرز النتيجة التي تؤهلها لتدخل الجامعة.
وحدث ما طمحت له، حين استطاعت الدخول إلى الجامعة في تخصص القانون ، دخلت الجامعة وعيناها تدمع فرحاً بأن الله حقق لها كل ما تريد، فيما كانت صحة والدتها في تلك الأثناء سيئة جداً.
مضى العام الأول في الجامعة دون أن تتحدث أو تتعرف إلى أي شخص، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لم تحسب له أي حساب، ذلك اليوم الذي لمعت فيه عيناها لأول مرة ، ذلك اليوم الذي تحولت فيه مشاعرها حين رأته يٌحدق بها وعيناه تغزل خجلاً.
لم تكن تعلم ما السبب، فهي لم تتحرك مشاعرها طيلة حياتها ، فدائماً ما كانت تكره الرجال وتكره الحب والزواج، فكيف لها أن تتجاوز السر الذي شاركته مع نفسها لسنوات عديدة، ذلك السر الذي كان وراء طفولتها الهادئة والقلقة، ذلك السر الذي لم تعلم به شقيقتها التوأم لشدة حرصها على إخفائه هي ووالدتها التي عاشت طيلة حياتها وهي تخبئ جسدها المٌزرق بارتداء الملابس ووضع المكياج، كيف لها أن تتناسى ذكريات الطفولة التي شهدت فيه عيناها ظلماً وقهراً لما كانت تتعرض له والدتها من ضرب وعنف ومِن منَ ؟؟ من الشخص الذي كان يحمل صفة الأب في حياتها، كان عقلها الذي كان يتسم ببراءة الطفولة عاجزاً عن خلق أي تفسير لما يحدث من عنف تجاه والدتها في كل صباح ومساء، كان رؤيتها لوالدتها وهي تحاول القيام من السرير وجسدها مغطى باللون الأزرق موت لطفولتها.
وعلى الرغم من كافة الأسرار المختبئة ومشاعر الكره التي تكنها لأبيها وكافة الرجال، إلا أن شيئا ما لمحته في عين ذلك الشاب كان كفيلاً بقلب حياتها التي تكسوها المرارة إلى حياة مليئة بالحب، وما هي أيام حتى تقدم نحوها يطلب منها الخروج سوية.
أصابها الخوف من الفكرة، فكرة الخروج لأول مرة مع شاب غريب، كيف لها أن تضمن عدم تعرضها للخطف ربما أو للاعتداء، أو ربما قد يراها والدها فيكون قتلها وشيكا جداً، أعتذرت عن اللقاء، إلا أنها وافقت في النهاية.
كان رجلا وسيماً للغاية، يمتلك ابتسامة ساحرة وعقلاً ناضجاً جداً، لم تستطع أن تركز في الكلمات التي كان يتفوه بها من شدة إعجابها به، كان يتحدث بكل أدب وأحترام وبالمنطق الذي يفتقر له أباها الذي عرفته في حياتها.
شعرت أنه ملاك ، ليس له شبيه على الإطلاق ، ووافقت على التحدث معه لحين أن يتقدم لها وتتم الخطبة، وبالفعل هذا ما حدث حين أوفى بكامل وعوده وتقدم لها ووعدها أن يسمح بها بالعمل وتقديم كافة المساعدة لوالدتها في الحياة.
باتت الأحداث شبيهة بالحلم، فكيف لها أن تتحول من فتاة كارهة للرجال إلى فتاة متيمة بالحب تعشق رجل ومستعدة للموت من أجله، ساعدها في تخليص والدتها من زوجها الظالم وأوفى بوعوده حتى تكمل عملها وتبدأ في مسار حياتها كمحامية نظراً إلى أنه محامٍ أيضاً وفي نفس المهنة.
جاء اليوم المنتظر وهو اليوم الذي سوف تنتقل به إلى بيت زوجها، كان أجمل يوم على الإطلاق في حياتها، كانت تشعر أن قلبها سوف ينفجر ويخرج من مكانه لشدة فرحها، تزوجت وتمت الأمور على ما يرام، إلى أن تحول الرجل الملاك في نظرها إلى…..
كان لا بد له من تحليل شخصيتها ومعرفة مفتاح الوصول إلى قلبها، كان لا بد له أن يحتال عليها ويمثل الدور بكافة الأدوار التي تلين عقلها وقلبها، فتقمص دور المحامي الحنون الذي يمتلئ قلبه بالرقة والكره للظلم والقهر الذي يتعرض له المظلوم، كانت والدتها نقطة حساسة بالنسبة لها، وكان إنقاذه لوالدتها وتشجيعه الدائم لها لتتخرج وتصبح محامية وتساعد كافة النساء اللواتي يتعرضن للظلم دور في إيقاعها بحبه، وما أن أحبته وتعلقت به وأصبحت زوجته حتى بدأ بممارسة الظلم والاضطهاد نحوها، فكيف لها أن تتوقع أن رجل عاهد ربه بمحاربة الظلم سيكون بهذه القسوة، كيف لها أن تدرك إن الشخص الذي وقعت في غرامه أشد ظلماً وقهراً من والدها.

انهارت تماماً عاجزة عن إتمام الامتحانات الأخيرة في فصل تخرجها، فكيف لها أن تتحمل ما تتعرض له من شتم وضرب إذا اقترب منها أحد الزملاء يحاول التحدث معها، باتت تتهرب من الإتصال والتواصل مع جميع الإصدقاء والأقارب خوفاً من زوجها، باتت تصرفاته تزداد ظلماً وقسوة بحجة أنه يُحبها ويغار عليها حتى من نفسه، الى أن جاء اليوم الأخير لها في الجامعة حين حدث ما حدث.
كانت مسرعة من المنزل حين سمعت أسمها من قبل جارة لها متزوجة تدرس معها في نفس الجامعة، عارضة عليها أن تصعد معها فزوجها يقلها يومياً إلى الجامعة قبل ذهابه إلى العمل، أعتذرت منهم بحجة أنها تريد زيارة والدتها قبل ذلك، إلا أن جارتها أصرت عليها معتقدة أنها تخلق الحجج لكونها تخجل كثيراً من الرجال.
صعدت معهم وهي تشعر بالخوف والذعر ملتفة يميناً وشمالاً كي تتأكد أن زوجها لا يراها فيجن جنونه ويخرج عن طوره، وما أن ابتعدت قليلاً عن المنزل حتى بدأ هاتفها في الرنين، لم تستطع أن تجب على الهاتف إلى حين وصولها الجامعة ، فقامت بمعاودة الإتصال به مراراً دون أي رد ، أضاعت الساعة المقررة لمراجعة بعض التفاصيل في المادة وهي تحاول الإتصال به، وما أن حان موعد الإمتحان حتى أغلقت الهاتف ودخلت إلى القاعة.
مضت ثلاث ساعات وخرجت من قاعة الإمتحان ومشاعرها تفيض بالسعادة، فهذا الإمتحان الأخير لها في الجامعة الذي تضمن فيه النجاح، ذهبت مسرعة إلى المنزل لعلها ترى زوجها وتزف له أجمل خبرين ، إلا أنها ما أن وصلت حتى أنهال عليها ضرباً عجزت فيه بعدها عن النطق.
أتهمها بالخيانة والغدر، أتهمها بأغلى ما تملك ، لم يسمح لها بالدفاع عن نفسها ولو للحظة، لم يسمح لها حتى بالنطق، تركها غارقة والدماء من حولها، تركها وهي بأشد حاجتها إلى حبه ودعمه، تركها دون أن تزف له خبر نجاحها في الأمتحان وخبر حملها.
فقدت الجنين في تلك اللحظة، كانت تعلم بخبر حملها منذ يومين إلا أنها فضلت أن تخبره بعد انتهائها من الإمتحانات، لم تكن تعلم إن خبر إخفائها الأمر سوف يكلفها خسارة جنينها الذي لم تشاء إرادة الله إن يأتي إلى الحياة لينير عيناها برؤيته ، جنينها الذي توفى بسب الشخص الوحيد الذي وثقت به وأمنت على روحها معه.
مضى شهر كامل على مغادرتها لمنزل زوجها وعودتها إلى والدتها، حاول كثيراً إرجاعها إليه، كانت تشعر بالموت في كل يوم ما بين حبها له، وما بين انكسار قلبها وحزنها على جنينها الذي مات بسببه، ضعفت كثيراً إلا أنها عزمت على عدم السماح له بإيذائها بعد ما حدث، ومضت في حياتها تبدأ أيامها الأولى في العمل بمكتب محاماة.
مساء يوم الأثنين
عادت إلى المنزل تنادي والدتها بصوت منخفض إلا أنها سمعت صراخاً من داخل المنزل، دخلت مسرعة لترى زوجها في المنزل ، ووالدتها ملقاة على الأرض.
شعرت أن روحها قد خرجت من جسدها آلاف المرات، تمنت الزوال، الموت، الاختفاء ولا أن يصيب والدتها مكروها ًفي الحياة، كيف ستتحمل لوم نفسها على ما حدث، إلا أن اللوم والندم لا ينفع بعد فوات الآوان، فوالدتها دخلت في غيبوبة ثم توفت بعد أيام ، وزوجها هارب من العدالة دون أن يعلم مكانه أحد.
مضى شهران….. جائها اتصال في ساعة متأخرة من الليل، تلك هي اللحظة التي كانت تنتظرها بكامل الصبر، هاتفها زوجها وهو يبكي بحرقة وندم على ما حدث، أخبرها أنه لم يقصد ذلك وأن الأمر حصل في لحظة غضب، تحدثت معه بكل برود وأخبرته بمدى حاجتها له في وحدتها وغربتها ، وأنها تعلم أنه لم يقصد أن يؤذي والدتها أبداً، طمأنته و اتفقت معه على اللقاء بعيداً عن الأماكن التي قد يعثر فيها عليه أحد ، وما أن ألتقيا وأرتمى في حضنها يشكو لها خوفه وجزعه ومتوسلاً منها أن تقف إلى جانبه وتخلصه من هذه المصيبة حتى قامت بشفاء غليلها فغرزت سكيناً في صدره عدة مرات متجاهلة العقوبات و القوانين التي درستها متفانية في الانتقام لأمها و لنفسها.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى