التعليم والثقافة المجتمعية: شجون الحجر الصحي

التعليم والثقافة المجتمعية: شجون الحجر الصحي
د. ماجد العبلي

تجربة الحجر الصحي وتداعياته المختلفة وضعت الوطن حكومة وشعبا دون سابق إنذار بمواجهة تحدٍّ غير مسبوق كشف مجموعة من الحقائق الواقعية التي لا بد من مناقشتها بصوت مسموع انطلاقا من مبدأ المراجعة التي تعد مرتكزا مستداما في تصحيح مسيرة الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول.
ويمكن تناول هذه الحقائق في سياقاتها التعليمية والتربوية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؛ غير أن هذه المقالة ستتناول مجالين فقط هما: المجال التعليمي ومجال الثقافة المجتمعية، في حين يمكن مناقشة الجوانب الأخرى لاحقا، أو من قبل كتاب آخرين.
أولا: في المجال التعليمي: حيث يمكن رصد جملة من الملاحظات منها:
1- عدم امتلاك وزارة التربية والتعليم خطة استراتيجية تستهدف رفع كفاءة المعلم وتمكينه من توظيف وسائل الاتصال الحديثة في العملية التعليمية التعلمية، حيث تبين بالتجربة الواقعية أن أكثرية المعلمين غير قادرين على استخدام وسائل التكنولوجيا المتاحة للتواصل الكفؤ والفعال مع الطلبة ومتابعة دراستهم وتكليفهم بالواجبات وتقييمها وتزويدهم بالتغذية الراجعة. صحيح أن معظم المعلمين حاولوا ذلك مشكورين، لكن هذه المحاولات -مع التقدير الشديد لها- لم تنجح في تحقيق الهدف إلا في حدود ضيقة جدا، ولأعداد محدودة من الطلبة الذين وجدوا متابعة حثيثة من قبل أولياء أمورهم للتواصل مع معلميهم وتبادل الواجبات وتصحيحها.
لذا فإن تدريب كل المعلمين على توظيف التكنولوجيا الحديثة صار أمرا استراتيجيا حيويا لا بد منه؛ لكي يتم الارتقاء بالعملية التعليمية التعلمية في الظروف العادية، ولكي يتم ضمان استمرار العملية التعليمية التعلمية بكفاءة وفعالية وتنظيم في حالة مواجهة ظروف طارئة أخرى لا سمح الله تعالى.
2-عدم امتلاك الوزارة خطة طوارئ منجزة لمواصلة عملية التعليم عن بعد في حال الاضطرار لتعليق الدوام في المدارس؛ ما وضع الوزارة بمواجهة ضغط شديد وتحدٍ غير مسبوق؛ فكان أن مرت بحالة من عدم التأكد؛ فتضاربت الرسائل الصادرة عنها لفترة وجيزة، ما فتح المجال للاجتهادات الارتجالية غير المؤسسية من قبل بعض القيادات التربوية الميدانية؛ الأمر الذي أربك المعلمين والطلبة والأهالي أيما إرباك، لا سيما والمعلمون يتلقون رسائل الحث على العمل غير الواضح (تحت طائلة المساءلة)!.
لكن الوزارة وللأمانة استطاعت خلال فترة قياسية (أسبوع واحد فقط) تدارك الأمر وإنجاز وإطلاق منصة تعليمية عالية الكفاءة والجودة والفعالية بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الوطنية المتخصصة. وهذا مؤشر جليّ يدل على الكفاءة العالية التي تتمتع بها قيادة هذه الوزارة التي نفخر بها ونعتز – كما نفخر بكل وزاراتنا ومؤسساتنا الوطنية. وهذا يعني أن قيادة الوزارة بكفاءاتها الحالية تستطيع -إذا توفرت الإرادة السياسية- أن تعيد بناء الوزارة لتكون وزارة ريادية على المستوى العربي.
3- التشوّه في المناهج: حيث يتكون معظم محتوى المناهج الحالية من المعارف العامة التي تنتمي للعمليات العقلية الدنيا في سلم (بلوم). وهناك جزء يسير من المنهاج يتناول بعض المهارات العلمية المتخصصة التي تنتمي للعمليات العقلية المتوسطة (مثل حل المعادلات الرياضية أو الفيزيائية أو الإعراب…) بينما هناك نقص كبير في عملية تمكين الطلبة من مهارات الحياة المعاصرة التي تنتمي للعمليات العقلية العليا (حل المشكلات، اتخاذ القرار، التفكير الإبداعي، التواصل الفعال…) في حين تكاد المناهج تخلو من القيم السلوكية النبيلة (الصدق، التنافس الشريف، النزاهة، تحمل المسؤولية…)
لذا فإن المصلحة الوطنية العليا تقتضي إعادة بناء مناهج جديدة، وفقا لشروط التطور الحضاري العلمي والتكنولوجي المعاصر، لتحقيق ثلاث غايات هي:
1- بناء إنسان نبيل، من خلال تزويد الطالب بمنظومة قيمية أخلاقية إنسانية طوال سنوات الدراسة، تجعل من الطالب مواطنا صالحا تقوده وتحكمه أخلاقه الإنسانية النبيلة. وهذا يتطلب إدراج مادة جديدة في المنهاج لكل الصفوف تحت مسمى (الأخلاق الإنسانية العامة) مثلا، ويتم إيلاء هذه المادة الاهتمام الأكبر بين المواد جميعها.
2-بناء إنسان ماهر ذكي، من خلال تمكين الطلبة من أهم المهارات الحياتية المعاصرة لا سيما المهارات العقلية العليا، ليكون قادرا على مواجهة صعوبات الحياة المعاصرة وحل مشكلاتها، والعمل بمهارة عالية. وهذا يتطلب إدراج مادة جديدة أخرى في المنهاج تحت مسمى (المهارات الإنسانية المعاصرة والمستقبلية) مثلا، وإيلاء هذه المادة اهتمام كبيرا.
3-بناء إنسان مثقف، من خلال تزويد الطلبة بملخصات لأهم المعارف الإنسانية العامة، بعيدا عن التحيّز والحشو والتفاصيل غير الضرورية. وتصميم هذه المعارف العامة لتكون ميدانا تطبيقيا تدريبيا لمادتي: الأخلاق والمهارات.
وهكذا تتماسك هذه الغايات فلسفيا وتطبيقيا في عقول المعلمين والطلبة؛ ما يمنح كلاً من المعلمين والطلبة وضوحا في الرؤية حول الجدوى المستقبلية من العملية التعليمية التعلمية جملة وتفصيلا، ذلك أن الواقع الحالي يدل على ضبابية أو غموض في الرؤية لدى الكثير من المعلمين والطلبة.
ثانيا: في مجال الثقافة المجتمعية: يمكن رصد بعض الملاحظات على النحو التالي:
1-الاستهتار واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية من قبل شرائح واسعة من المجتمع تجاه حقيقة خطورة وباء فيروس كورونا، لا سيما قبل تعليق الدوام. واستمراره جزئيا بعد إعلان حظر التجول.
2-التهافت والمبالغة في الشراء، حيث تجمع الناس مرة واحدة بصورة أقرب للهمجية لا سيما في الأفران حيث كانت الأنانية السافرة سيدة الموقف من ناحية، والمبالغة المقززة من ناحية أخرى حيث قام الكثيرون بشراء كميات كبيرة جدا من الخبز تفوق حاجتهم بأضعاف، ما حَرَمَ عددأ لا بأس به من الناس من الحصول على مادة الخبز من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان التّلفُ مصيرَ الخبز الزائد عن الحاجة حيث تم رميُهُ في القمامة بعد رفع الحظر جزئيا.
3-الاستغلال والغش من قبل بعض التجار، حيث شهد يوم الجمعة (الذي سبق يوم فرض حظر التجول) استغلالا فاحشا في أسعار السلع من ناحية، وتمرير الكثير من السلع منتهية المدة في خضم الازدحام غير المسبوق. وحتى بعد تحديد أسعار السلع الأساسية من قبل الحكومة، فقد استمر الاستغلال بطرق شتى منها قصر البيع بالصندوق فقط، وخاصة لمادتي البطاطا والبندورة، الأمر الذي حرم الفقراء من الحصول على القليل من هاتين المادتين، إلى غير ذلك من الممارسات غير الإنسانية.
4-النفاق والازدواجية، حيث لوحظ أنه في حين تضج وسائل التواصل الاجتماعي برسائل النصح والإرشاد الكتابي والصوتي ومقاطع الفيديو من الناس للناس لحثهم على الالتزام في البيوت، فإن الشوارع كانت تزدحم بالناس طوال الوقت، حيث يبدو أنّ كل فرد يريد من كل الناس الالتزام في بيوتهم، لكي يخرج وحده يتجول كما يشاء باعتباره الأكثر وعيا وذكاء.
وإن هذه السلوكات السلبية جميعها -الفردية والجماعية- لا يمكن البدء بتقليصها شيئا فشيئا للتخلص منها مجتمعيا إلا خلال فترة زمنية طويلة، حين يبدأ المنهاج التربوي المقترح أعلاه يؤتي ثماره. ما يعني أن المنهاج التعليمي هو حجر الأساس في أيّة نهضة مجتمعية وطنية منشودة. وهذا ليس بدعا ولا مجرد وجهة نظر شخصية أو ادعاء استعراضي، فالتاريخ الحديث أثبت هذه الحقيقة؛ حيث استطاعت كل من اليابان وألمانيا النهوض إلى قمة الإنجاز الحضاري المعرفي والاقتصادي في وقت قياسي أشبه بالمعجزة، بعد أن تم تدميرهما تدميرا تاما في الحرب العالمية الثانية؛ وذلك بفضل مناهجهما التعليمية التي تم تصميمها وطنيا لتحقيق هذا النهوض الإنساني الكبير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى