السيء لم يأتِ بعد
محمد امين المومني
لا يحملنَّكم الوباء الأصغر “كورونا” على نسيانِ الوباء الأكبر، صحيحٌ أن جائحةَ كورونا قد تفشَّت بيننا منذ عدة أيام، لكنَّ الوباء الأكبر قد أوغلَ فينا منذ سنين، و لئن كان هذا الفيروس باعثاً في كُربتنا، فقد كان “الوباء الأكبر” سبباً في سوء أحوالنا، كورونا يقتل بضعة أفراد على مرأى الناس، وأما الوباء الأكبر فيقتلنا جمعياً بصمت، ولا أعلمُ أيُّ الوبائين قد لقينا منه عَنَتَاً عظيماً؟ لكن ما أعلمه أنَّ الوباء الأصغر حتماً سيفاقم الوباء الأكبر أضعافاً مضاعفة، وهو مُتأزم بطبيعة الحال.
الوباءُ الأصغر تظهر أعراضه في غُضون 14 يوماً، وكثيرٌ مِنَ المصابين يتماثلون للشفاء، وقليلٌ منهم مَن يلقى حتفه، أما الوباء الأكبر فتظهر أعراضه حال إصابتك على الفور، ويبقى طوال حياتك، ولا شفاء منه ولا مهرب، يقتل كُلَّ من يقف أمامه بلا رحمة ولا هوادة، و يُبقيهم مصابين حتى مماتهم، والأسوء من هذا كُلِّه، أن المصاب يُورث العدوى للعائلة بأكملها، ولا شكَّ أنك واحد منهم.
بات الأمر واضحاً للعيان لما سيكون، وليسَ العيانُ كالخبر، فقد دخلنا ليلاً لم يأتِ نهاره بعد، والأمر لا يتعلق إطلاقاً بهذا النهار، لأننا ما زلنا نقبع تحت وطأة خريف قاسٍ، والوصول إلى الرببع باتَ يتطلبُ معجزة السماء، وما يجمع كل التناقضات التي ذكرتها هو نحن، ومن سوانا الذي ذاق مرارة ما نحن فيه، ومن غيرنا سيدفع الثمن؟
مَن يُنكر جدلاً تدهور الأوضاع الاقتصادية عندنا، يُمكنه فرضاً أن ينكرَ وجوده في هذه الحياة، ومَن استطاع أن يمنع عن نفسه ذلك، فلن يمعنه عن الآخرين، وهم غارقون في بحر الفقر والجوع والحرمان، يقاتلون ضَنَكَ الحياة من أجل تأمين أبسط مقوماتها، ولا يجدون في يومهم إلا ما يدفع عنهم الموت، ويُبقيهم على مشارف الحياة، حتى يبقوا في عذاباتهم، فلا هم موتى يرتاحون مما هم فيه، ولا هم أحياءٌ ينعمون بعيش هنيء، إنما تتأرجح حالهم بين البقاء والفناء، تماماً كعصفورٍ مذبوح، يضطربُ من شدةِ الألم، لا هو ميت، ولا هو بمأمنٍ مِن عذاباته، وليسَ هُناكَ عاقلٌ في الدنيا كُلِّها، يمكن أن يطلب من المذبوح أن يكفَّ عن اضطرابه، لأن ممتاته وحياته صارت سواء.
وإن لم يبكوا على حاضرهم، فهل يكون عليهم أن يبكوا لمستقبلهم؟ حيث لا تجد في قاموس كلماتهم وجوداً لما يسمى المستقبل، لأنهم في حاضرٍ مقيت، يأسر شبابهم، ويسرق إبداعهم، ويقتل تفكيرهم، ويُحاصر واقعهم في دائرة تضيق عليهم، كما يضيق القبر بصاحبه، تبددت آمالهم في واقعٍ مرير، يعيشون فيه أسرى مكبلين، لا هم يستطيعون مجاراة الحياة، ولا هم أحرار في منطق صعب يُحتّم عليهم أن يبقوا على حالهم.
الوباء الأكبر تفشى منذ زمن، وكلكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم، وإن أنكروه على الملأ، فقلوبكم تُخبركم بحقيقة المنطق، فالقلب هو مكمن الحقائق، وإذا كنتم أشد الناس حرصاً على وأد كورونا، فلماذا لم تكونوا كذلك في كبح جماح الفقر؟ وإن كانت جائحة كورونا تُخوفكم، فآثار الأوضاع الاقتصادية أحق أن تخشوها، لما لها من الأثر العظيم والفادح على البلاد والعباد.
الكثير صار تحت لعنة تردي الأوضاع الاقتصادية، ورهينة للإلتزامات المالية، وأسيراً لمنظومة اقتصادية تُرسخ اتساع فجوة الفقر، والواحد منهم أتعبه صعوبة المسير لطريقٍ مسدود، وواقعٍ عسير، ومستقبلٍ مظلم، يقضي أجمل أيام شبابه في أتعسِ حال، ويسرق الزمن ربيع عمره، ويقوده لخريفٍ طويلٍ طويل، فيصحو وقد فات الأوان لكل شيء، فلا عمرٌ يُسعفه، ولا همةٌ تُساعده، ولا واقعٌ يُسعده.
ليس هُناك فرقٌ في حالات المصابين بالوباء الأكبر، سوى أن بعضهم يُدرك حقيقة الأمر في بداية الأزمة، والبعض الآخر قد أدركهُ العمر حتى أدرك سوأة حاله، وما أصعبها على الاثنين معاً، وباتَ وشيكاً أنَّ قطار العمر قد ذهب أو سيذهب، ولكن ما ينبغي أن ندركهُ حقاً أن الأجيال التي بعدنا ستواجه ما عشناه بقدرٍ أكبر، كما واجهنا نحن ما مرَّ به آبائنا.
السيءُ لم يأتِ بعد، والبعض قد دفع الثمن، وآخرونَ سيدفعون ثمناً أكبر، والقِلة من ينعمون بـرَغَدِ الوطن ويحتكرون خيره، والأكثرية يعيشون بالشدة والعوز والضيق والعسر، ولا أفهم ما الفرقُ بين إنسانٍ من القِلة وبين إنسانٍ من الأكثرية؟ إلا أنهم لا يتعذبون ونحن نتعذب، وأنهم هم من ينالون خير الوطن ونحن لا ننال، فما أكثرَ ما تنعمُ به القِلة.. وما أقلَّ ما تنعمُ به الأكثرية! ..وما أكثرَ مسّرات القِلة.. وما أكبرَ عذاباتِ الأكثرية!
وإنَّ أقلَّ قولٍ يُمكِنُ للكثيرِ قوله: قليلهم كثير، وكثيرنا قليل.
Mo.almom16@gmail.com