
حكاية العاشرة
العاشرة مساء… وأوراق ناصعة وقلم حبر أسود، وبضع أمنيات وفيض من الأفكار والذكريات، والذاكرة تخون والفكرة تعاند… وحدها الأزمنة تحتفظ بالذاكرة وتحافظ على قداسة اللحظة وطهرها وعفويتها… في العاشرة تماما تخلع الساعةشقاوة اللحظات، وتنزوي في إهاب ليلها الساكن، تخفي عن الدنيا اشتعالاتها ،وتطفئ صخب البشر بهروب لذيذ وتتنفس عميقا عميقا في انتظار منتصف ليل يعلن بعدها ولادة فجر جديد… في تلك السويعة الأثيرة تولدت أقدار، ونزلت طيوف ملائكية نشرت أنوارها فزهت الدنيا وتراقصت لحظات التجلي والإلهام بنشوة فرح غامر …..بعيدا عن لذة كاذبة أو نشوة مبتسرة، أو أنين مكتوم عندها فقط ،يستحيل القلم شراعا يبحر في عالم الكلمات، ويرتاد مجاهيل وغايات، ويغرق بسلام في عوالم مدهشة، لا أتمنى معها النجاة ولا أستغيث لنجدة، ولا أفكر في الرجوع،
كم يغريني الحبر الأسود في الكتابة !!
حيث تبدو فيه الكلمات أكثر أناقة ورتابة وإغراء كالفاتنات بفساتين سوداء، قد تعكس لون الفرح في حفلة حب رائعة، وقد تعكس لون الحزن والحداد، وفي الحالتين يتجلى الجمال وتبدو الدنيا بصدقها ووجها الحقيقي، بعيدا عن ألوان الزيف والخداع…..
ومهما يكن من نزف الروح، ومن عتمة الحياة، ومهما ترافق الأسود بظلمة الحياة وعتمة الحقيقة وضبابية البشر، والآمال المستحيلة والأصوات المختنقة ،فإن نصاعة الأوراق تجليها ،وشفافية البوح
تعطي الأشياء قيمتها، والحقائق كينونتها
، ولأن لكل حكاية نهاية، فها هي الأحداث تروي نفسها أملا في الرسوعلى شاطئ النهايات…….
طفل ….كهل
كان عمر في التاسعة من العمر حين
! استفاق ذات صباح على نزاع مرير
كان نزاع جده المحتضر منذ أسبوع أخف وطأة على نفسه من نزاع الوالد والأعمام.. ا
لآن وقد فرغوا من دفنه ومراسيم عزائه حان وقت الحساب…
لم يحضر والد عمر دفن أبيه
لإعاقة في جسده ، فقد أصيب بطلقة نارية استقرت في عظمالحوض ومنذ سنين، كان ذلك قديماد
فقد تزوج والد عمر من فتاة تركية أثر قصة حب عميقة، التحقت الفتاة
به غصبا متحدية أعراف أهلها وقوانيها الصارمة، حينئذ أصبح والد عمر وأقاربة هدفا لغارة انتقامية، قتل فيها صبي بعيار طائش واستقر آخر في عظم الرجل فشل عن الحركة طوال عمره، فقدت والدة عمر كامل امتيازاتها وتجردت من عراقتها، وعكفت على خدمة الزوج ورغم كل شئ أثمر الحب عن ثلة من البنات والبنين كان عمر أصغرهم سنا.
ظل الحقد في نفوس أعمامة مشتعلا فقد فقد أحدهم واحدا من أبنائه و أصرت الغريبة أن تبقى مزروعة بينهم تروح وتغدو وتكسب وتتمرغ في الحقول لإعالة الأطفال، كانت بالنسبة لهم وجة الخطيئة وجه عزرائيل معا يمران من بين الحقول، الحقول التي صارت حراما بعد موت الجد…
. أسفر النزاع عن حل مجحف :بيت الجد وهو مسكن العائلة منذ سنين مقابل الأراضي والأملاك الشاسعة….. استغل الأعمام صغر الأبناء وعجز الوالد، ورفضهم القديم الجديد للوالدة، وأحقاد أخرى دفينة… لإنجاز المقايضة….
تماما كمن يدخل في حرب ضروس أعزل، لا حول له و
ولا قوة ؛فيخرج من حربه لا شبر يسلم من ضربة سيف او رمية سهم او طعنة رمح..
بمزيد من الغضب والتمرد استقبل عمر صباه، بمزيد من الغل والكراهية والإحساس بالظلم تنفس الشاب، ومزيد من الهزات في نفسه وكفره….وإيمانه استقبل الرجل مقبل أيامه و
أكثر ما كان يعذبه اضطراره للعمل وأخوته في حقول الغرباء وهو يرى حق أبيه مسلوبا .
…منذ ذلك الحين والنار مشتعله في قلب عمر كان كل من يلوذ بجواره يكتوي بها، وظل رهينا لطفولة قاسية بائسة لم تغادره أبدا في مقبل أيامه……