فؤاد الجندي
في بداية الألفيّة وأثناء الانغماس الكلّي في كذبة التنمية السياسية وفي أحد المؤتمرات التي كان يرعاها مخطّطُ تلك الفترة والذي يلبس المخطّط هذه الفترة ، قدّمت طرحاً مختلفاً نوعاً ما في معرض إجابتي على تساؤل قدّمه مدير الحوار في إحدى الجلسات ، كان السؤال عن أنواع المنابر التي يطرح بها الشباب آراءهم السياسية وكان النقاش حول منسوب الحرّية في تلك الطروحات ومستوى الوعي في هذه الآراء ، وأذكر أنّ الطرح الذي قدّمته في ذلك الوقت قد أثار الضحك والاستهزاء وربّما غضب البعض.
المراحيض العامّة ، هذه كانت واحدة من النقاط التي ذكرتها في إجابتي على ذلك التساؤل وهي النقطة التي أثارت اللغط ، وكان دفاعي عن تلك الفكرة بأنّ الشباب يجدون أنفسهم بحرّية مطلقة داخل المراحيض العامّة وبالتالي يمارسون حرّية التعبير بشكلها المجرّد ، والحقيقة كانت بعض جدران المراحيض وأسطح أبوابها الداخلية مثيرة جدا وتدعو للتأمّل.
على تلك الجدران والأبواب ، كتب الشباب (وربّما غيرهم) آراءهم في مكوّنات المجتمع ، في الرياضة ، في الأنظمة ، قضيّة فلسطين ، الدين ، كتبوا وأحيانا رسموا خيالاتهم الجنسية ، كما أنّها كانت ساحة لتصفية الحسابات والانتقام والتنمّر ، أسماء أشخاص وفتيات بأرقام هواتف وعناوين كانت تنقش في غالبية هذه المراحيض ، وبالطبع كانت معظم هذه الحوارات الشيّقة مشفوعة بقدر هائل من الشتائم التي قد لا تجدها في أكبر القواميس والمعاجم.
العجيب والمضحك كان في الحوارات التي كانت تدور بين بعض الكتبة على تلك الجدران ، فكنت تستطيع رسم ملامح كاتب النصّ إن كان متديّنا أو داعرا أو ثوريا أو سحّيجا أو … ، وأحيانا كان نفس كاتب المنشور الأصلي يردّ على المعلّقين على منشوره ، ممّا يدلّ أنّه كان أحد الزوّار المواظبين لهذا المكان الجميل.
ربّما يعود الفضل في اطّلاعي على هذا الأمر وامتلاكي لهذه الخبرة (المُقرفة) هو قضائي وقت طويل في الشوارع والأماكن العامّة وعدم امتلاكي لسيارة في ذلك الوقت ، بالإضافة إلى أميبا استوطنت وكمنت في أمعائي بعد أن فتح أبناء العمّ المجاري على مياهنا ، وفعليّا أطعمونا خر… ، ومعلوم أن الأميبا تسبب الدوسنتاريا ، وكانت هذه الأميبا كما وردت من المصدر تحبّ الاستيطان والكمون والمراحيض العامّة.
المهم ، أنّي رغم مرور أكثر من عشرين سنة على تلك الجلسة من ذلك المؤتمر ، ومرور الكذبة المُرّة التي عشناها يوما بيوم ، إلّا أنّي ما زلت أتبنّى نفس الطرح ولكن مع تطوير بسيط يتماشى مع التنمية التي نمت بها قدرات البشر على التعبير ، فبعض جدران وصفحات التواصل الاجتماعي لا تختلف كثيرا عن جدران وأبواب تلك المراحيض العامّة ، وأيّ تنمية كما يعلم الجميع هي في النهاية مدخلات ومخرجات.