متلازمة “فرق في التوقيت”!
يقول أحمد لصديقه سعيد وهما يرتشفان القهوة في أحد المقاهي الشعبية وسط البلد: هناك في علم النفس ما يسمى “اللحظة الفارقة” وهي تلك اللحظة التي تمر على الانسان بمحض الصدفة او بمعنى أدق دون تخطيط أو وعي مسبق، ولكنها تُشكّل علامة فارقة في حياته بل تكاد تُعيد تشكيل حياته من جديد، نحو الأفضل غالباً أو نحو الأسوأ إذا لم يُحسن استغلالها، أو إذا ما فوّت تلك الفرصة. لطالما شعرت أني ولدت بفارق توقيت زمني، لازمني عمري كله، بحيث بتّ أشعر أني دائماً ما أفشل في اقتناصتلك اللحظة الفارقة،وغالباً ما تفوتني في غفلة مني، كمن يفوّت موعد طائرته!
يمكنك القول إني وجدت في الزمان الخاطئ، أو كما يحلو لي وصف حالتي، أنا أعاني منمتلازمة (فرق في التوقيت!)
بدايةً، ولدت “عام النكسة”، وانضممت الى جيلٍ نُكس بمجرد ولوجه الى هذه الحياة، ولم تسمح له الظروف بشرف الولادة على أرض الوطن فولد في المهجر، وحُرم من الإشارة الى وطنه السليب على صفحته في التاريخ بالقول (مسقط رأسه!).
سافر أبي الى الكويت ليعمل سائقاً في احدى الشركات ويعيل عائلته التي تضم بالإضافة الى زوجته وأبنائه، والدته وإخوته، وكان دائم الغياب بحيث أني لم أتعرف عليه فعلياً الا بعد ان أُنهيت خدماته وأصبح عجوزاً عاطلاً عن العمل، أي في الوقت الضائع!
أحببت زميلتي في الجامعة وتعاهدنا على الزواج بعد التخرّج،وبعد حصولي على وظيفة محترمة وما أن قبضت راتب أول شهر، ذهبت الى بيت الفتاة مزهواً بسرعة تنفيذ التزامي لها، وكانت المفاجأة أن الفتاة قد خُطبت قبل أسبوع لابن عمها!طبعاً لم أقتنع وطلبت فرصة التحدث مع الفتاة على انفراد، ولكنها أكّدت الخبر وطلبت مني أن نفترق بهدوء وأن أراعي ظروفها العائلية، ثم أشارت من حيث لا تدري الى تلك المتلازمة التي لا تفارقني حين قالت (يبدو أننا التقينا في الزمان الخاطئ!)
أخبرتني جارتنا “أم حسن” المولعة في قراءة الطالع ومتابعة الأبراج والحظ، أنني تأخرت في القدوم الى هذه الحياة بضعة أيام كانت كفيلة في تغيير بُرج حظي، وأضافت أن برجي الحالي لا يتفق مع برج تلك الفتاة، فأنا هوائي وهي مائية! في حين لو أني “بكّرت” قليلاً لتطابقت معها!
تؤيدها أمي وهي تمازحني بالقول إني تأخرت أسبوعاً عن موعد الإنجاب، لأني كنت عنيداً “راسي يابس” ولو أنى التزمت بموعد ولادتي لربما تحسنت فرصي في زواجي من تلك الفتاة!
يقول سعيد في محاولة فك النحس عن صديقه: ولكن هذا لا يستدعي أن تشعر بتلك العقدة، ربما أنها مسألة قسمة ونصيب وربما حظ لا أكثر، يقاطعه أحمد: ولكن الأمور لا تقف عند هذا الحد، فثمّة وظيفةٍ أو شاغرٍ دائماً ما “يُصادف” أن يُغلق قبل أن أحصل على فرصة التقدم له، أو أن يتم تعديل قانون ما أو تعليمات خاصة بالوظيفة بحيث “يُصادف” أن لا يشملني ذلك القانون المُحسّن تبعاً لعمري او تاريخ التحاقي بالوظيفة، وعلى العكس تماماً اذا صدر تعديل ضريبي أو تعليمات يترتب عليها التزامات معينة، فإني وبقدرة قادر أكون أول من تنطبق عليه تلك الشروط الخاصة !
يسترسل أحمد في الحديث قائلاً، تخيّل أني عندما قرّرت الانضمام الى الحركات الثوريّة وذهبت للتطوّع للمشاركة في حرب لبنان عام 1982 تم رفضي بسبب صغر سني، وبعد تخرجي من الجامعة قررت الانضمام الى المنظمة لخوض النضال السياسي في الحركة، ولكن “الختيار” اختار حينها اغلاق القضية بتوقيع تفاهم مدريد تلاه اتفاقية أوسلو التي كانت بمثابة اعلان الطلاق بيني وبين كل ما يتعلق بالمنظمة والفصائل الثورية!
يتساءل سعيد: أنت لم تتزوج الى الآن، هل هو وفاء أم… ؟! يبتسم أحمد ويقول ألم أقل لك! في الحقيقة تعرضت لصدمة بعد تلك العلاقة الفاشلة، ولكني لم أحرم نفسي من خوض غمار تجارب أخرى، لقد أحببت زميلة لي في العمل تعمل معي في نفس الدائرة، وبعد علاقة حب معقدة وطويلة تبيّن لي أنها عاشت قصة حب سابقة مع أحد الناشطين الفلسطينيين الذين وقعوا في أيدي جنود الاحتلال وأستشهد تحت التعذيب. اعترفت لي أنها رغم حبها لي وتعلّقها بي إلا أنها لا ترى نفسها زوجة أحد غيره!
تدمع عينا احمد ويقول، آخر كلامها كان (يبدو أننا التقينا في الزمان الخاطئ، ربما لو التقينا قبل عشرة أعوام لكنت أحببتك وارتبطنا، بالتأكيد كنت سأحبك!)
أُسقط في يدي سعيد، وبات حائراً فيما يقول، بل أنه هو شخصياً أصبح يميل الى الاعتقاد بصدق تلك المتلازمة التي يتحدث عنها صديقه!
وفي لحظة صمتٍ شاردة، سمعا أصواتاً قادمةً من تحت شُرفة المقهى، ورأيا تجمّعاً لافتاً للمارة ثم لاحظا انتشار قوات مكافحة الإرهاب في المكان، وفي وسط ذلك الازدحام، علا الصراخ وشاهدا أحد الأشخاص المشبوهين وهو يرتدي حزاماً ناسفاً على ما يبدو ويهدد بتفجيره محاولاً الهروب من الأمن، وفجأة ووسط كل تلك الأحداث المتسارعة انطلق ذلك الشخص هارباًوسرعان ما ارتقى درجات المقهى وأصبح على بعد طاولةٍ واحدةٍ منهما!
هرب جميع من في المقهى بمن فيهم سعيد، وحده أحمد وقف جافلاً حائراً متسمراً مكانه غير قادرٍ على الحركة، قفز المُطارَد ذو الحزام الناسف فوق الطاولة التي يشغلها أحمد، ثم صرخ ببعض الكلمات التي لا يُفهم منها سوى نيّته تفجير نفسه ويده تقبض على زر المُفجّر، وفي تلك اللحظة وقف أحمد ودون وعي أمسك بتلابيبه وقال: أضاقت عليك الدنيا وتركت كل هؤلاء البشر كي تأتي وتفجّر نفسك عند هذا العبد الغلبان؟! ووسط دهشة الإرهابي ما كان من أحمد سوى ان مدّ يده وقبض على أداة التفجير بكل تصميمٍ وصلابةٍ قائلاً (بيدي لا بيد عمرو!)؛ سقط الإرهابي على الأرض من هول المفاجأة وانقلبت الطاولة عليه، ثم أطلق ساقيه للريح وفر هارباً الى خارج المقهى وهو يصرخ ويقول مجنون! مجنون!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن