مبتدأ وخبر

مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه

المبتدأ: في الستينيات من القرن الماضي، كانت “أمينة” هي الفرد الوحيد العامل في أسرة “أبو يوسف”، وأجرها الذي تتقاضاه لقاء خدمتها لزوجة المختار نصف دينار لليوم الذي تعمل فيه، فيما كانت كل الآمال معلقة على تخرج “يوسف” العالق في امتحان التوجيهي منذ سنوات.
كان يوسف مدللا كونه الذكر الوحيد بين أربعة أخوات أكبرهن أمينة، التي تركت المدرسة، لتعيل الأسرة، كان حلمها أن تدخر خمسين دينارا لتشتري آلة خياطة فتعمل عليها بدلا من الخدمة المرهقة والمذلة في المنازل.
لذلك كانت كل مساء تعد ما (حوّشته)، وعندما أصبح المبلغ عشرة دنانير، صمّدته قطعة نقدية واحدة، تستخرجها مساء كل يوم خلسة عن العيون، وتتشممها فرحة بها، ثم تعيدها الى حرزها الحريز تحت مخدتها.
في غفلة منها مرّة رآها “يوسف”، فسال لعابه، وقال لأخته: ألا تخشين عليها من السرقة، فامتقع وجهها رعبا، قال لها: لا عليك، سأخبئها لك في شق بالحائط وأغلقه بالطين فلا تصله أيدي اللصوص.
صدقته المسكينة عندما رأته يضع الطين عليها في الشق، أما هو فقد استخرجها قبل أن يجف الطين وذهب بها وأصدقاءه الى المدينة، وقضوا يوما ممتعا.
ظلت أمينة تراقب المخبأ كل يوم خلسة لتطمئن الى عدم العبث به، وفي مرة خطر لها أن تتأكد من بقاء ورقة العشرة دنانير في مكانها، فصاح بها يوسف بغضب: ألا تعلمين كم تغلبينني بفك الطين ثم إعادة تطيينها، عندما تجمعي الأربعين دينارا سأستخرجها لك.
الخبر: بمناسبة نهاية العام، أعلنت رئيسة صندوق استثمار أموال الضمان الإجتماعي معلومات عن أوضاع الصندوق، وعلى سبيل تطمين الشعب على مدخراته الوحيدة التي بقيت له بعد أن طارت كل موجودات الوطن في عملية الخصخة المشؤومة، فقد ذكرت أن الموجودات قد نمت هذا العام بما مقداره 714 مليونا لتبلغ القيمة الإجمالية 10.9 مليار دينار.
لكن الجزء المفزع في الأمر أن الحكومة اقترضت منها 5.7 مليار، وهي جزء من المديونية العامة للدولة التي قاربت الوصول الى الثلاثين مليارا.
ولما كانت هذه المديونية تزداد عاما بعد عام، بل باتت القروض الجديدة لأجل تسديد جزء من الفوائد، لكي يوافق الدائنون على جدولة ديونهم، بمعنى يؤجلوا سداد الأقساط التي تستحق، وبالتالي تتضخم هذه الأقساط من غير وجود احتمال لتسديد أي منها.
طبعا هذا الحال مع القروض الخارجية، فهل يأمل المقرضون الداخليون (وأحدهم مؤسسة الضمان الإجتماعي) أن تسدد الحكومة ديونهم قبل يوم البعث؟.
هذه واحدة، لكن المصيبة الثانية والتي تلحق أبلغ الضرر بأموال الضمان، هو تأسيس الشركة الوطنية للتنمية السياحية تدير سبع فنادق وستة استراحات سياحية، وهذه الشركة مملوكة بالكامل للضمان، ومن المعروف أن جميع المشاريع المتعثرة تلقيها الدولة على الضمان ليتولى اطفاء خسائرها، والتي تحققت بسبب الفساد وتنفيع المحاسيب وتوظيف المؤلفة قلوبهم من ابناء وأحفاد أعمدة النظام.
فعلى سبيل المثال فإن مدير أحد تلك الفنادق راتبه الشهري 20 ألف دينار، وكانت المؤسسة قد اشترت له سيارتين الاولى “جمس” يقدر ثمنها ب65 ألف دينار والثانية “فولفو” وثمنها 45 ألف دينار كما استأجرت له فيلا في عبدون بكلفة 45 الف دينار سنويا ويتقاضى 5 آلاف دينار شهريا كمصروفات شخصية، ولم يحقق هذا الفندق ولا غيره أية أرباح طيلة الأعوام العشرة الماضية.
أما ثالثة الأثافي فكانت التوسع البيروقراطي المبالغ فيه في إدارة المؤسسة، بتحميلها كلفا إدارية ورواتب ومكافآت وبدلات عديدة بأسماء مختلفة، وطالها ما طالها من لعنة المؤسسات المستقلة، التي تأسست على فلسفة إيجاد وظائف عليا للمحاسيب والمؤلفة قلوبهم من الذين أقيلوا أو أحيلوا على التقاعد من الضباط المتقاعدين وتخشى الدولة العميقة إغضابهم، فتأسست في مؤسسة الضمان عدة مؤسسات مستقلة، مثل صندوق الإستثمار والشركة الوطنية وغيرها، تستهلك كل منها كلفا عالية، ولم تقدم أية قيمة مضافة.
لم تُظهر رئيسة الصندوق أن مبلغ الزيادة كان في أغلبه متأتيا من الفارق بين المبالغ المدفوعة من المشتركين والتي تبلغ سنويا 1.8 مليار وبين المصاريف والرواتب لهذا العام، وليست عائدة لجهود صندوق الإستثمار أو نجاحه.
لذلك فالخوف من أن يكون اطمئنان الأردنيين كاطمئنان “أمينة” إلى تأكيدات “يوسف” بأن تحويشة العمر ما زالت في حرز حريز!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى