#مبتدأ و #خبر
د. هاشم غرايبه
المبتدأ: رأيت مرة رجلا يحمل على حمار كيسا من البطيخ، ويبدو أن إحدى البطيخات سقطت فانكسرت، فركب الرجل على الحمار خلف الكيس ليثبته، وأما البطيخة المكسورة فقد جعلها أمامه يأكل منها، والقشور المتبقية يرميها لحماره الذي يلتقطها فرحا بهذه الغنيمة، وهكذا تمكن هذا الرجل من إلهاء الحمار عن المشقة المضاعفة التي يتكبدها جراء حمله البطيخ والرجل معا، بل قد يكون أسعده ذلك، معتقدا أنه عطاء إكرام، لأنه لا يملك ذكاء يعلمه أنه كان سيرميها على أية حال لأنها لا تنفعه.
الخبر: لا أعرف لماذا ذكرتني هذه الصورة بأن هذه الحالة ليست بعيدة عن الحالة التي تسود العالم الآن، في ظل النظام الرأسمالي المنبني على تسخير المجاميع البشرية المستحمرة، لخدمة قلة من البشر يحتكرون المال والنفوذ والإعلام…وبالطبع السلطة الحاكمة، لكي يحملوا لهم ما يحقق لهم الثروات والمنافع العريضة، فيما لا ينال من يحملونهم ويحملون لهم الغنائم إلا القشور التي تبقيهم على قيد الحياة، وفوق ذلك يهزجون بشكرهم، ويبالغون بمدحهم.
الإعلام المضلل أضفى على الليبرالية هالة من التبجيل، بتصويرها أنها تمثل الحرية والإنفتاح، لكن حقيقتها ذئب في رداء حمل، فالحرية الموهومة هي لتسهيل التهام الحوت للأسماك الأصغر، والإنفتاح المزعوم هو لرفع الحماية عن الكائنات الأضعف، لكي تتقبل التهامها برحابة صدر وبلا تذمر.
المعروف أن الثورة الصناعية مثّلت تحوُّرِ الإقطاعية الأوروبية الى الرأسمالية، وفي سبيل توفير المواد الخام والأسواق تطورت الى الإمبريالية، لكن مظاهرها كانت القسوة والوحشية، فحاول المفكرون والفلاسفة الأوروبيون تلبيسها رداء إنسانيا خادعا (وليس تغيير محتواها) فظهر مسمى الليبرالية لتبرير أفعالها المنكرة، ثم تطورت الى (النيوليبرالية) في السبعينيات من القرن العشرين، وتميزت بالتغني بحقوق الإنسان وتمكين المرأة وحماية الطفل كشعارات براقة، لكنها في حقيقة الأمر لم تكن أكثر مبررات للتدخل في ثقافات الشعوب وتغيير أنماطها المعيشية الى استهلاكية لتسويق منتجات الغرب الصناعية، كما استخدمت في حالات كثيرة للتدخل العسكري كما في ذريعة تمكين الأفغانيات من التعلم، فاحتلت البلد مما أدى الى ردة فعل الإسلاميين ونشوء القاعدة وما تلا ذلك من مآسي.
قبيل حقبة الحرب على (الإرهاب)، وتمهيدا لها، نشط الغرب في تدريب الفراخ الجديدة للطبقة السياسية العربية على التبشير بالنيوليبرالية كدين جديد، لبناء ثقافة نقيضة للثقافة العربية الإسلامية المترسخة، متخذين شعار “أتاتورك” بقطع الصلة مع الماضي منهجاً، وأن ذلك وحده مفتاح التقدم والرخاء واللحاق بالعالم الأول.
من هذه الطبقة الطفيلية نشأ جيل من السياسيين تولوا المناصب العليا في كل البلاد العربية، ولأنهم مستعجلون على تركيم الثروة فوق ما كانوا ورثوه، فقد كانوا صيدا سهلا للبنك الدولي، الذي أغراهم بالاستدانة، شريطة أن يرهنوا اقتصاد بلدهم بتنفيذ خططه الخبيثة التي يسميها مراوغة التصحيح الاقتصادي، والتي هي حقيقتها تجريد البلد من الأدوات الاستثمارية التي تدر عليه الموارد تحت مسمى الخصخصة، وتخلي الدولة عن الاستثمار، واعطاء الاحتكارات الأجنبية المفترسة الحرية في القضاء على صغار المستثمرين المحليين، وبالتالي حالة من الإفقار العام، تبريرا للإستدانة ولإغراق البلد بالديون، تحت وعود معسولة بتحسن الأداء الإقتصادي.
لو أخذنا الأردن مثالا على ذلك سنلاحظ أنه وبعد تنفيذ ثلاثة برامج تصحيح اقتصادي، طلب البنك الدولي من الحكومة تنفيذها، استهلكت عشرين سنة عجافا ..لم يتحقق أي مما كان يوعد الشعب به إن صبر واكتفى بقشر البطيخ، فصبر منتظرا خروج الاقتصاد من عنق الزجاجة، لكن النتيجة أن الإقتصاد وصل الى أسوأ حالاته!.
لا يملك هؤلاء علينا حجة بالقول أن سبب فشل الوعود أننا أعقناهم أو عارضنا إجراءاتهم، فمقاليد الأمور جميعها بأيديهم والشعب صامت لا يملك حولا ولا قوة.
فالمعارضة القوميسارية بائسة، فقادتها منهمكون في إظهار حسن سلوكهم، منتظرين مكافأتهم على ذلك بمناصب رسمية بنكهة قشر البطيخ، فيما عناصرها ومريدوها منشغلون بشعارات سفسطائية على شاكلة: (النضال لأجل الدولة المدنية)، رغم أن الدولة الأردنية مدنية وأبعد ما تكون عن الدينية.
وأما المعارضة الإسلامية فهي منكفئة على ذاتها، مشغولة بتضميد جراحاتها، بعدما نالها ما نالها في الحملة الصليبية الأخيرة وتوابعها من حروب ما زالت قائمة، تشنها الأنظمة المهرولة الى التطبيع المجاني، آملة مكافأة أمريكا لها..بقشرة بطيخ!.
مع نهاية العام 2021 …هذه هي الصورة بلا رتوش.