مبتدأ وخبر

مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه

#المبتدأ: فوجيء أهل القرية بحضور مجموعة من #فرسان_الدرك، تبين أنهم ينوون عمل #مخفر، اختار قائدهم أجمل بيت يحيط به بستان، وطلب من ساكنيه مغادرته قبل #المغرب، واعدا إياهم بإعادته بعد أن يبنوا مقرا للمخفر، لم يكن من خيار أمام رب العائلة غير الرضوخ، فانتقل الى بيت أخيه ووزع الأولاد على الجيران.
مرت شهور ولم يفِ قائد المخفر بوعده، بل استقدم عائلته بعد أن استطاب المقام، ثم تقلصت مطالب صاحب البيت بالسماح له بأن يبني غرفة في البستان، لكن طلبه رفض أيضا، ولما استجار بأهل القرية، قالوا ليس لنا من سبيل إلا دعمك في تفاوضك، إذ لا طاقة لنا بهؤلاء الدرك ولا نقدر على مجابهتهم، لكننا معك في المطالبة العقلانية فيكفيك غرف واحدة تبنيها في البستان ، فشكلوا وفدا برئاسة المختار لمقابلة قائد المخفر.
ولم يجبهم بالقبول أو الرفض بل نظر الى ثقب في عباءة المختار، والذي أخفاه بيده خجلا قائلا: هذا من قرضة فأر، فوبخهم قائد المخفر قائلا: بدل اهتمامكم بهذا الموضوع التافه، لماذا لا تهتموا بالفئران التي تسرح وتمرح في بيوتكم؟ ..
ومنذ ذلك اليوم أصبح همهم الوحيد مكافحة #الفئران، ولم يعد حديثهم مع قائد المخفر إلا عن جهودهم في هذا الشأن .. ونسوا قضية البيت.
الخبر: خلال التاريخ البشري، انتهت كل حالات الاحتلال، الحالة الوحيدة التي ظلت قائمة هي احتلال فلسطين، وبغض النظر عن أية حجج متعلقة بأساطير تاريخية وقصة الوعد الإلهي، فكل ذلك روايات تعود الى ما قبل ألفي سنة، وعادة لا يعترف أي محتل احتل أرض غيره أن احتلاله اغتصاب، فكل محتل يجد تبريرا تاريخيا أو جغرافيا ما، ولا يبدي المحتلون أية نية في إعادة الأرض لأصحابها بناء على الاحتكام الى الحق والعدالة.
ليست هنالك قضية في التاريخ توازيها ظلما، فقد قامت قوى البغي والاستعمار الأوروبية بإعطاء أرض يملكها شعب منذ الأزل، لأناس متنوعي الأعراق والأوطان لا تربطهم ببعض إلا عقيدة قديمة منسوخة، وخولتهم هذه القوى بطرد أصحاب الأرض، ومن يرفض أو يقاوم اعتبرته إرهابيا، وجزاؤه الحصار والتنكيل.
في حقيقة الأمر، لا يعود سبب بقاء هذه الحالة الشاذة إلى عدم توازن القوى بين الظالم والمظلوم، فلم تكن هنالك مقاومة وطرد لإحتلال في أية مرة إلا وكان المحتل متفوقا بشكل كبير، لكن الى تخاذل أصحاب الحق.
إذن الخلل القائم من جراء بقاء هذه القضية خارج حسابات المنطق التاريخي، واستمرار بقائها أزمة عالقة، هو بسبب تخلي أصحاب القضية عن حقهم، لعل ذلك يشير الى المقاربة الصحيحة لمعالجة هذه القضية.
فلم يتخل مغتصب عما اغتصبه يوما بدافع تأنيب الضمير، ولا أعيد حق الى صاحبه يوما بالتراضي، لذلك فالتفاوض من موقع الاستجداء، هو خيانة لأنه تخلي عن الواجب، وتتضاعف الخيانة عندما يتحالف الخانع مع المحتل على مكافحة من يقاومونه، ويتعاون معهم بتقديم معلومات عن هؤلاء، مما يسهم في ترسيخ الظلم أكثر وتأخير زواله.
لم تحل قضية احتلال عبر التاريخ بهذا الأسلوب، الحل الوحيد لا يمكن أن يكون إلا بالتمسك بملكية الوطن، فالتسول على أبواب المحسنين لن يجدي، فالعالم يزدري الخانع ولا يحترم إلا عزيز النفس، ففي عام 1973 اعتقد العالم أن الأنظمة العربية الدول ثأرت لكرامتها، فتراكضت كثير من الأقطار لقطع علاقاتها بالكيان اللقيط، لكنها عادت عن ذلك عندما لمست أن ما جرى ليس للتحرير .. بل للتحريك.
ستظل قضية فلسطين عنوانا لهوان الأمة على أعدائها، والقضية ليست صراعا دينيا، ولا حقوقا إنسانية، إنها حلقة في الصراع الأزلي بين الحق والباطل، ولا يقوى الباطل بغير سكوت أهل الحق عن حقهم.
مر قرن من الزمان، والأمة تنتظر من أنظمتها الحاكمة أن تصدع بواجبها، بدلا من ذلك أشغلت أنفسها بقصة محاربة الإرهاب العبثية.
من كان لا يجد في نفسه قدرة على حمل الواجب، فليتركه لأهله، ومن كان عاجزا عن دفع ثمن الكرامة، فلا أقل من أن لا يسهم في الذل والمهانة.
التفاوض على السماح ببناء غرفة في البستان، يعني التخلي عنه وعن البيت أصلا.
فترك الأمر لجيل قادم لديهم الإرادة، أفضل كثيرا من التخلي عن الحق مقابل الفتات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى