مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه
#المبتدأ: في قصة من #الأدب #الروسي، اعتاد والدا الطفل إرساله الى جدته في القرية في العطلة الصيفية، فكانا يرافقانه بالقطار، ويوصلانه الى جدته، ثم يقفلا راجعين بالقطار في اليوم ذاته.
عندما بلغ ابنهما الثانية عشرة، قال لهما إنني كبرت، وأعرف كيف أدبر أمري، وليس بكما من حاجة لمرافقتي، ورغم قلقهما عليه فقد تقبلا الأمر، فأوصياه ما أمكنهما توصيته، وأوصلاه الى المحطة، وقبل أن يودعاه، دس الأب في يد ابنه ورقة مطوية وقال له:
ابقِ هذه الورقة في جيبك، ولا تفتحها إلا إذا شعرت بالخوف أو لم تتمكن من تدبير أمرك.
انطلق القطار بالولد وحيدا لأول مرة من غير والديه، ورغم حماسه لاستقلاليته، إلا أن الهواجس بدأت تنتابه، وأخذت نظرات الغير المتفحصة تقلقه، ثم ارتفع منسوب القلق لديه بسرعة ليتحول الى خوف وكاد يجهش بالبكاء.
عندها تذكر الورقة التي أعطاه إياها أبوه، ففتحها وقرأ فيها: لا تقلق، أنا في العربة الخلفية.
#الخبر: كل الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج بين الذكر والأنثى أودع الخالق فيها فطرة الأبوة والأمومة، وهي عاطفة خاصة تتميز بالعطاء والإيثار والحماية تجاه صغارها، ومن غير انتظار لرد الجميل، ومنزهة عن المنفعة والغرض.
بالمقابل فعاطفة الابن تجاه الوالدين مختلفة تماما، فهي نابعة من الحاجة الماسة لهما، أي هي من ضرورات البقاء على قيد الحياة سواء كان في مرحلة الرضاعة أو الفطام لتوفير الطعام والرعاية والحماية، أو حتى عندما يشب على الطوق، لا تنتهي الحاجة لهما، بل تتناقص تدريجيا، مع تنامي الاعتماد على الذات، والقدرة على اتخاذ القرار.
البداية فيها تتشابه بين كل كائنات المملكة الحيوانية، ثم يحدث الافتراق البائن بينها جميعا وبين الإنسان، فكلها تنقطع العلاقة الرعائية تماما، بل ينقطع أي ارتباط للكائن أو معرفة مع الأم او الأب، بخلاف الإنسان، فيبقى اكتساب المعارف والخبرات مرتبطا بالوالدين زمنا طويلا، بل هو لا ينقطع أبدا مهما تعاظمت خبرات الولد وتنامت معارفه، بل يتم انتقالها عبر الأجيال وتركيمها نوعيا وكميا.
هكذا نلاحظ أنه هنالك علاقة طردية بين رقي الكائن الحي، وبين دوام العلاقة بين الأجيال، وبالقياس فإن هذه العلاقة تكون أمتن كلما كان الإنسان إنسانيا أكثر، وتضعف كلما تدنت لديه هذه الفضيلة وأصبح أقرب الى الحيوانية البدائية.
في المجتمعات المادية، التي تسودها قيم النفعية والفردية، تكون العلاقات بين جيل الآباء والأبناء في أضعف صورها، سواء العمودية منها (الأصول والفروع)، أو الأفقية (أبناء العمومة والخؤولة)، فلا تجد اهتماما من أحد بشأن الآخر، ولا مشاركة له في فرحه أو حزنه، ولا تناصحا إن كان من حاجة لاتخاذ قرار هام.
هنا تتميز المجتمعات المؤمنة عنها، فهي أرقى منها بمعيار الإنسانية، فلم يجعل الدين هذه العلاقات استجابة فطرية فقط، ولا مجرد آداب يتحلى بها المرء إن ابتغى الصلاح، بل أوجب الإيمان على الفرد دوام التواصل الحميم مع الوالدين وذوي الأرحام والأقارب وحتى مع الجيران، وجعله التزاما واجبا يُسأل عنه إن تجاوزه، ويحاسب عليه إن قصّر به.
بالمقابل فعلاقة الوالدين بإبنهم فطرية لا تحتاج دوافع ضاغطة أو حوافز ترغيب، لذلك وجدنا أن التشريعات الإلهية تركتها لما فطرت عليه، فاستقامت الأمور.
لكن التشريعات البشرية التي ابتدعتها المجتمعات الليبرالية، بذريعة حماية الطفل من اعتداء والديه، أو حماية حريته الشخصية إن أرداوا منعه من ممارسة الشهوات الفاحشة أو معاقرة المخدرات، فهو يستطيع بها مقاضاة والديه إن أراد، هذه التشريعات لن تحمي الطفل حقيقة، فما يدفع الأبوين الى رعايته على الوجه الأمثل، ليس الخوف من القانون بل عاطفة طاغية أوجدها الله، لا قبل لهما بمغالبتها.
في حقيقة الأمر هذه التشريعات المناقضة للفطرة السوية لا يقصد بها إلا تعطيل السنن الطبيعية التي أوجدها الله بشكل أسر مبنية على المحبة والتكافل الذاتي، وتفتيتها، لأن الإحتكاريين يستسهلون التعامل مع الأفراد كمستهلكين، وإغراقهم بمنتجاتهم، ومن الصعب عليهم إختراق الأسر المتماسكة بفضل الإيمان والتشريعات الإلهية، والتي للكبار فيها كلمة، وعلى الصغار فيها الاستجابة لتوجيهاتهم، والتي دائما هي لخيرهم ومصلحتهم.
في المجتمعات المؤمنة فقط، يبقى الوالدان في العربة الخلفية طوال العمر، لا ينزلان مهما بلغت ثقتهم بقدرة ابنهما على تجاوز الصعاب، وجاهزان لأية مساعدة.