ما بين مرسي وأرمسترونغ
لا نحتاج تحقيقا دوليا للتأكد من أنّ أول رئيس منتخب في تاريخ مصر تعرّض لعملية اغتيال بشعة، فالتحذيرات من اغتياله لم تتوقف، سواء منه شخصيا في المحكمة أم من أسرته وأنصاره، أم من المنظمات الحقوقية، وحتى مجلس العموم البريطاني. وما جرى هو عملية اغتيال منظمة وغبية تشبه جريمة اغتيال جمال خاشقجي في وحشيتها وغبائها. وما جرى بعد الاغتيال، من تمويه وإخفاء وتغطية في الدفن والجنازة “يكاد المريب أن يقول خذوني”.
لم يتحلّ المجرمون بفضيلة الصمت بعد الاغتيال المروّع، زاد حقدُهم على الضحية بعد القتل إلى درجة التمثيل بالجثة في الإعلام ومنصات التواصل. تماما كما القبائل البدائية التي تشرب الدم، وتأكل القلب، حقدا وتلذّذا. يحتاج حساب حمد المزروعي إلى خبراء في علم النفس لتحليله. يُقال إن الحساب يدار بشكل غير مباشر من ولي عهد أبوظبي، ولكن لو لم يكن كذلك، فإن أي حساب على منصات التواصل، أو مجموعة واتساب، خاضعة للأمن في بلاده تحكّما ورقابة. في تعليقاته على الوفاة، يصف الرئيس الذي انتخبه أكثر من 13 مليون ناخب مصري وسجن ست سنوات وصفا منحطّا، داعيا إلى عدم دفنه في “مصر العروبة لأنه خاين”.
لم يكن “العاقل” عبد الرحمن الراشد أحسن حالا، فمع أنه حرص، في تاريخه المهني المنحاز للطغاة والمحتلين على التحلي بمظهر مؤدّب، خرج عن أدبه، شبّه ضمنا الرئيس المنتخب بمجرم الحرب ميلوسوفيتش الذي انتحر في المحكمة. وخلافا للمزروعي، لم يترّحم على مرسي مكتفيا بالتقاطته الذكية. وهو، كما المزروعي، لا تعبّر تغريدته عن مزاج شخصي جُرمي عليل بقدر ما تعبّر عن نهج مشغليه لسانا للدولة السعودية وسياستهم. لم يكن أتباعه في المنصّات والشاشات أقل وحشية وتخلفا.
نصل إلى الإعلام المصري المدار من عبد الفتاح السيسي مباشرة، عبر ابنه المسؤول في المخابرات المصرية، بدأ مبكرا بحلقة لعمرو أديب قبل الاغتيال بثلاثة أيام عن “الموت المفاجئ”.. هكذا مصادفة! في علم الجريمة، راوح المجرم بين الرقص على الجثة من خلال القنوات المصرية بطريقة بدائية يحترفها ضباط المخابرات وضابطاتها الذين يداومون على الهواء، وفي الصحافة كان النقيض، حال إنكار، لا خبر عن رئيس مصر الذي اغتالوه في المحكمة، خبر فرعي هامشي داخلي عن وفاة شخص يُدعى، محمد مرسي العيّاط، ولو كانوا أكثر مهنية لاكتفوا بالأحرف الأولى من الاسم.
مقابل قيء الثورة المضادّة، تعطرت وسائل الإعلام العالمية والمنصات بالتعاطف والتضامن مع أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، إذ عنونت الواشنطن بوست افتتاحيتها “الموت الظالم لمحمد مرسي يكشف كم تراجعت مصر”. وهي تعكس مزاج الصحافة العالمية التي دعت إلى تحقيقٍ دولي في موته. على المنصّات كانت جنازة تاريخية، احتل اسمه الترند العالمي، وتصدّر، ليس في مصر، بل في كل دول الثورة المضادة؛ السعودية والإمارات وغيرهما.
قد تكون أضخم جنازة افتراضية في حجم الانتشار والتفاعل معها، على الرغم من سلوك المجرم في “إخفاء الجثة” ومنع العزاء. وفي الواقع شهدنا تظاهراتٍ على مستوى العالم من خلال صلاة الغائب، سواء في المساجد أم الساحات والبيوت في قارات العالم، وبلغ التحدّي للسلطات السعودية أوجه في أداء العمرة عن الرئيس الشهيد، وتصوير ذلك ونشره في منصات التواصل، وتلك قد تعد أشجع التظاهرات.
لم يحقق المجرم هدفه في الموت السلس للضحية، وإخفاء الجريمة. كانت شهادةً مدويةً تليق بمثل محمد مرسي ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه، نموذجا عز نظيره في الشجاعة والتضحية والاستقامة، والنبل، والعلم والذكاء. نعم الذكاء، حاول مجرمو الثورة المضادة التقليل من مكانة العالم محمد مرسي، وسجلّهم العلمي يؤكد أن أيا منهم لم يتم تعليمه الجامعي (حميدتي أوصلنا إلى الابتدائي)، جاء نعي العالم عصام حجي، ردا عليهم، فمرسي تخرّج في جامعته، سوثرن كاليفورنيا التي تخرّج منها نيل أرمسترونغ، أول إنسان وطأ سطح القمر.
يحقّ للجامعة أن تفخر بأنّ منها أول من وطأ سطح القمر، تماما كما أنّ منها أول رئيس مصري وطأ ثرى الديموقراطية. وإنْ كرّم الأول فقد اغتيل الثاني. وهذا الفرق بين دول تُبنى على العلم وأخرى على الجهل.
لم يُدفن مرسي، ما دفن هو حقبة سوداء في تاريخنا العربي، تقودُها مجموعة من الهمج الرعاع البدائيين. وأعطى بشهادته حياة للربيع العربي الذي ظنّوا أنه تحوّل إلى هشيم.
يوماً ما، ستقام لمرسي جنازة حقيقية، لا افتراضية، ويعاد الاعتبار حتى لقبره، تماما كما حصل مع مندريس الذي أعدمه عسكر تركيا. أما القاتل، فسيجد يوما محاكمةً عادلة، وسيمضي حياته مع الشركاء يخشون عودة الربيع الحتمية.