ما أشبه الليلة بالبارحة

ما أشبه الليلة بالبارحة

#الشيخ_كمال_الخطيب

✍️

لعله السؤال الذي يقفز على لسان كل واحد منا يبحث عن جواب به يفسّر الحالة التي عليها الأمة في هذه الأيام. إنه السؤال عن سبب #الصمت_القاتل والسبات العميق والخور المذهل و#الخذلان الذي تعيشه #الأمة_الإسلامية، يعيشه #الزعماء ويعيشه #العلماء وتعيشه #الشعوب عبر حالة الإنخراس واللامبالاة مما يجري ويقع على الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين من أبناء شعبنا في قطاع غزة.

✍️الكل يتساءل هل ماتت الحمية العربية وتقطعت آخر الخيوط من رابطة الأخوة الإسلامية وشيعت إلى مثواها الأخير؟! وهل حُنّطت معاني الإنسانية في متاحف التاريخ؟!

مقالات ذات صلة

✍️وهل بلغت الخيانة بالزعماء إلى الحدّ الذي لم يتجاوز فيه موقفهم أكثر من بيان هزيل أو مؤتمر صحفي يتم فيه تسجيل موقف؟! ولماذا انخرس العلماء إلا من رحم الله فلم تصدع حناجرهم بالدفاع عن المقهورين والمظلومين، وما الذي يمكن أن يحدث أكثر مما حدث، وماذا يمكن أن يكون أعظم وأخطر من وقوع نكبة وتهجير للمرة الثانية على أبناء شعبنا في قطاع غزة في العام 2023 وهم الذين سبق وهُجّر أجدادهم وآباؤهم بل وعشرات الآلاف منهم ممن ما زالوا أحياء وهم الذين هُجّروا في العام 1948.

✍️وخلال البحث عن جواب للسؤال الأول فإنها جملة تساؤلات تتوالى:

هل هي نهاية الأمة واندثارها وزوالها وإلى الأبد؟ أم أن هذه حالة عارضة وغيمة سوف تنقشع؟ وهل مرّ مثل هذا الحال في تاريخ الأمة؟ وكيف كان الخلاص والخروج من هذا الحال؟

✍️وللإجابة عن هذا السؤال بل هذه التساؤلات، فلا بد من تقليب صفحات التاريخ وسنجد أكثر من مرة فيها عاشت الأمة ظرفًا كهذا الظرف حتى يصدق قول من قال: “ما أشبه الليلة بالبارحة” ولعل مرحلة هي الأكثر شبهًا بما عليه الأمة في هذا الزمان، هي المرحلة قبيل الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي والتي كتب عنها الكتاب والمؤرخون حيث كان من أبرز ملامحها:

🔹فساد الحياة الاجتماعية

✍️لقد تردت الحالة الاجتماعية فيما بين المسلمين بعضهم ببعض من فرقة وخصومات وأنانية وصلت إلى الحد الذي وصفه ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ لما قال: “لقد انهار مفهوم الأمة الإسلامية، وحلّت محله مفاهيم العصبية الإقليمية والعشائرية والمذهبية، حتى أن العصبية كانت بين أبناء المدينة والبلدة الواحدة حيث عمّت حوادث الشجار والفتنة بين العائلات والأحياء في بغداد والبصرة، وفي سنة 470 حدثت فتنة قُتل فيها خلق كثير وأحرقت المنازل ورفع العامة السودان”. ويقول: “وفي العام 461 وقع في دمشق فتنة بين المشارقة والمغاربة حيث احترقت دار قرب المسجد الأموي الذي احترق بكليته”.

✍️وفي غمرة الفساد الذي ضرب الحياة الاجتماعية، انصرف الناس عن القضايا الهامة إلى القضايا التافهة التي تدور حول الطعام والشراب واللهو والمساكن، وانتشر النفاق وسادت الانتهازية والأنانية حتى قال المؤرخ أبو شامة: “وكانوا كالجاهلية همّ أحدهم بطنه وفرجه لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا”.

وزيادة في مظاهر الفساد فكان اللهو وفساد الأخلاق وشاعت بين الناس مصارعة نقر الحمام، وشاع الزنا وشرب الخمر وانتشرت الملاهي والجواري والمغنيات، وانتشرت الشكاوى من الناس بعضهم ضد بعض.

✍️وإذا قرّبنا الصورة لما يحصل في هذه المرحلة العصيبة التي تمرّ بها الأمة، فإنه يتبيّن لنا أن مشاريع الفتن والحروب الداخلية، وأن الشجارات والخصومات العائلية، وأن صراع العصابات وجرائم القتل بينها ليس صدفة، وأن الفساد الاجتماعي وانتشار الانتهازية والانشغال بالمأكل والمشرب والرحلات والسفر وكثرة وسائل اللهو والإباحية والعريّ والزنا وكثرة الطلاق، هي ليست إلا جزءًا من مشاريع هدم للمجتمع.

✍️وأن إشغال الناس بملاهي ومهرجانات الترفيه والغناء هي نسخة جديدة لما كان يومها، فإذا كانت تجري مسابقات مصارعة الحمام يشرف عليها الخليفة، فإنها اليوم مهرجانات الكلاب كما جرى في السعودية قبل أسبوعين.

🔹الانقسامات السياسية

✍️كانت الانقسامات السياسية في الأمة الإسلامية على أشدها فقد انقسمت دولة السلاجقة إلى خمس دول، وانقسمت إمارة الشام إلى دويلات دمشق وحلب والموصل وبعلبك وطرابلس، وكان بين كل إمارة ودويلة صراع وخلاف مع الإمارة الأخرى مع أن أمراء هذه وتلك كانوا إخوة أو بني عمومة، حتى أن البعض منهم استنجد بالصليبيين المحتلين وأقام معهم تحالفات ومعاهدات تم بموجبها تزويد الصليبيين بالغذاء والسلاح ثمنًا لمناصرة أحدهم على أخيه كما فعل أمراء دمشق وحلب.

✍️ووقع ما هو أفدح من ذلك حين ظهر بعض الأمراء المسلمين الذين وبدلًا من مواجهة المحتلين الصليبيين، فإنهم قد وجهوا سهامهم وعصاباتهم لمقاتلة المسلمين، بل وصل بهم الأمر إلى حد قطع الطريق على الحجاج ونهبهم وسرقة أموالهم وفرض ضرائب عليهم إذا عبروا من أرض هم يسيطرون عليها.

✍️لا بل إن الصليبيين قد وجدوا من بعض تلك الجماعات الفاسدة والعصابات المارقة من استخدموهم للقيام بعمليات الاغتيال وقتل العلماء والقادة المسلمين. إنهم العملاء في أبشع صورهم كما فعلوا في محاولتين لاغتيال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله غيظًا وحنقًا عليه لدوره في كشف مخططاتهم وتوحيد الأمة لمواجهتهم وإفشال مشاريعهم.

✍️وكثرت يومها الانقلابات السياسية يقوم بها زعيم وأمير ضد آخر، وتُسفك الدماء وتُنتهك أعراض واحتدم الصراع بين الفاطميين وبين الدولة العباسية حيث استغل الفاطميون حالة الضعف فراحوا يضربون ويثخنون جسد الخلافة العباسية، وخلال ذلك كانت سنابك خيول الصليبيين تحتل بلاد المسلمين، فاحتلوا مملكة السلاجقة في آسيا الصغرى، واحتلوا إمارتي حلب ودمشق ودفعها الجزية للصليبيين، ورفض أميرا دمشق وحلب التعاون مع بعضهما ضد الصليبيين بل إنهما تحالفا مع الصليبيين استقواء في أحدهما على الآخر، وسقطت القدس والمسجد الأقصى بيد الصليبيين في العام 1099 وذُبح في ساحاته 70 ألف مسلم وارتكبت المجازر في كل بلد وصلوا إليه.

✍️بل إن كتب التاريخ تذكر أن وفدًا من أهل بيت المقدس ذهب إلى بغداد حيث الخليفة العباسي وأخذوا معهم جماجم ممن قُتلوا في ساحات الأقصى، وكذلك أخذوا معهم شعرًا من شعر نساء اغتصبن وقتلن، فلمّا وصلوا بغداد وجدوا الخليفة العباسي مشغولًا بتدريب حمامته “البلقاء” استعدادًا ليوم مسابقة نقر الحمام. فهل يختلف حال الأمة اليوم وحال القدس والأقصى وغزة بما هي فيه، بينما محمد بن سلمان لا يقف عند حد إقامة مهرجانات الرقص واللهو والغناء والخنا، وإنما هو الذي يقيم في بلاد الحرمين الشريفين مسابقة للكلاب من جميع أنحاء العالم.

✍️ومن أصدق من وصف حال الأمه يومها ما قاله الشاعر والأديب “وجيه بن النصر التنوخي” في وصف حال الأمة لما احتل الصليبيون المسجد الأقصى:

أحل الكفرة بالإسلام ضيمًا يطول به على الدين النحيب

فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب

وكم من مسلم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم سليب

وكم من مسجد جعلوه ديرًا على محرابه نصب الصليب

أمور لو تأملهن طفل لطفّل في مفارقته المشيب

أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذا يطيب

أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب

فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

🔹صرخة عالم

✍️كانت فترة عصيبة ومرحلة خطيرة قد مرّت على أمة الإسلام، ذاق فيها المسلمون الهوان والتمزق والضياع، سفكت الدماء وهتكت الأعراض ودمّرت المدن والأسواق وانتهكت المقدسات. وكان أخطر ما في تلك المرحلة صمت علماء السلاطين وانخراسهم بل تبريرهم أفعال الأمراء والسلاطين بالفتاوى، إلى أن كانت صحوة وثورة العلماء العاملين الصادقين تقدم صفوفها الشيخ عبد القادر الجيلاني وأصحابه وتلاميذه.

✍️وجه الشيخ عبد القادر رسائله وخطبه إلى الأمراء والعلماء وإلى عامه الناس مشيرًا إلى مظاهر الفساد ومؤكدًا على أنه لا خلاص إلا بالعودة إلى تعاليم الدين في بناء الفرد والمجتمع وإعادة بناء مفهوم الأمة الإسلامية من جديد. وكان من أشهر أقواله: “أيها الناس دين محمد تتساقط حيطانه وتتهدم أركانه، هلموا يا أهل الأرض نبني ما تهدم ونقيم ما وقع، هذا يثنى ما يتم يا شمس يا قمر يا نجوم… “

✍️وجّه كلامه ورسائله إلى العلماء الذين باعوا دينهم بدنيا الملوك والأمراء حتى أنه اعتبرهم تجارًا يتاجرون بالدين من أجل مصالحهم، فقال لهم: “يا سلّابين الدنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابها، يا جهّالًا بالحق أنتم أحق بالتوبة من عوام الناس، أنتم أحق بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء”. “لو كانت لكم ثمرة العلم وبركته لما سعيتم إلى أبواب السلاطين، العالم الحق لا رجلين له يذهب بهما إلى أبواب الخلق ولا يدين له يأخذ بهما أموال الناس”. “يا خونة العلم والعمل، يا أعداء الله ورسوله، هذا النفاق إلى متى؟”.

وكان يخاطب عامة الناس بقوله: “لقد صارت الملوك لكثير من الخلق آلهة، ويحكم أيها الناس أجعلتم المرزوق رازقًا والمملوك مالكًا والعاجز قويًا والميت حيًا، إذا عظّمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عزّ وجل ولم تعظّمه فحكمك كحكم من عبد الصنم”. وكان يقول لهم: “ملائكتكم تعجب من وقاحتكم، وتعجب من كذبكم في أحوالكم، تعجب من كذبكم في توحيدكم، كلّ حديثكم في الغلاء والرخص وأخبار السلاطين والأغنياء، أكل فلان ولبس فلان وتزوج فلان واستغنى فلان. كل هذا هوس ومقت وعقوبة، اتركوا ذنوبكم وارجعوا إلى ربكم دون غيره اذكروه وانسوا ما سواه”.

✍️أليست وقاحة من بعض المسلمين في زماننا يتظاهرون بخزيهم وتأثرهم مما يجري للأطفال والنساء والشيوخ في غزة من قتل وتشريد بينما يقيم أحدهم لابنه العرس فيه الولائم والغناء والأفراح والليالي الملاح، فأي نفاق هذا يا هؤلاء؟!

✍️كان تلاميذ الشيخ عبد القادر يكتبون ما يقول على أوراق يعلقونها على أبواب المساجد ينتقدون فيها الحكام وأعوانهم حتى أنه اغتنم يومًا وجود الخليفة في المسجد فخاطبه من على المنبر قائلًا له: ًوليّت على المسلمين، أظلم الظالمين، ماذا ستقول غدًا لرب العالمين” مشيرًا بذلك إلى الأمراء الذين كانوا يختارهم الخليفة وبعضهم كان من شرار الناس.

🔹وجاء الفرج

✍️ كانت مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني وتلاميذه ونواة الصحوة والنهضة الدينية في ذلك الزمان والتي أعادت توجيه البوصلة الدينية والاجتماعية والسياسية للأمة، هذه الصحوة التي مهدت لظهور عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وهيأت لظهور صلاح الدين الأيوبي وتحرير القدس والأقصى بعد معركة حطين الخالدة، وإن كان ذلك حصل بعد رحيل ووفاة الشيخ الجيلاني رحمه الله، الذي ولد قبل احتلال القدس والأقصى بنحو عشرين سنة أي في العام1078. وتوفي قبل إعادة تحرير القدس والأقصى من الصليبيين بنحو عشرين سنة أي في العام 1166.

✍️وعليه فإن الجواب على السؤال الذي يقفز على لسان كل واحد منا في محاولة فهم المرحلة التي نمر بها وهل هي تمثّل المسمار الأخير في نعش الأمة، أم أنها عارض مرضي وستشفى منه الأمة بإذن الله تعالى، أم أنها جزء من ناموس الله في الأمم والحضارات، أنها تمر بفترات قوة وضعف، إقبال وإدبار، نصر وهزيمة.

✍️وإذا كنا قلنا ما أشبه الليلة بالبارحة، فإنه الحديث عن مساء تلك الليلة الحزينة التي احتلت فيها القدس والمسجد الأقصى المبارك وتسلط علينا علوج الإفرنج الصليبيين. ولكنها الليلة التي طلع صبحها وقد هزمنا الصليبيين شرّ هزيمة وتطّهر الأقصى وكل أرض المسلمين من رجس احتلالهم.

✍️نعم إننا في مرحلة يقظة وصحوة ونهضة برغم ما فيها من آلام ودماء ودموع وابتلاءات، وبرغم ما فيها من خيانة زعماء وتكالب أعداء وضلالة علماء، إلا أنها مرحلة وستنتهي، وغيمة وستنقشع، وكرب سينفرج، وستعيش الأمة بإذن الله في عزّ الإسلام وتحت راية التوحيد راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن غدًا لناظره قريب.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى