
«سوده عليه.. هل أخذ دواء الضغط؟ هل بات من دون عشاء؟ اليوم اعتقلوا زوجها المهندس في جيش النظام السابق. لم يكن لهما أولاد. كان كل حياتها. في السنين الأخيرة بعد عام 2003 كان ملازماً لها كظلها من الصباح وحتى المنام. أخذوه. من لي غيره؟ أنتظره وأعدّ له العشاء، لعلّهم يرجعونه لي. بدونه أكاد أموت».. ليست الكلمات الآنفة فقرة من قصة قصيرة أو إعلاناً لفيلم كما قد يتراءى للمتلقي، بل عملاً فنياً متكامل العناصر، رسماً وسينما ونصاً جانبياً، للفنان شاكر الألوسي. الرسّام والأكاديمي العراقي، الذي تلقّى تعليمه في جامعة بغداد وأكاديمية الفنون الجميلة في مرحلتيّ البكالوريوس والماجستير، أضفى على لوحاته طابعاً مأساوياً استسلم له رغماً عنه في معرضه الأخير المقام في غاليري الأورفلي حالياً، بعكس معارض ولوحات سابقة كان قد تحايل فيها على الألم بكثير من النوستالجيا للأيام العراقية الوردية وثيمة الفلكلور. في هذا المعرض، الذي حمل عنوان «أفلام لم تعرَض»، ظهرت لوحاته بألوان، أكريلك وباستيل، قاسية وحزينة ووجوه سمراء كالحة، باكية تارة ومذعورة تارة أخرى، وبمقاس لوحات كبير يرمز لكبر حجم المأساة. يقول الألوسي، الذي أقام في عمّان لخمسة أعوام قبل ارتحاله لأميركا، بأن لوحات معرضه، التي جسّدت المحتلّ والإرهابي ككلب مسعور يتربّص بالأبرياء، جاءت على خامة ورقية «عن قصد؛ ذلك أن ثيمتها هي ملصقات لأفلام لم تعرَض. سواءً كانت حكايات بعضها واقعي تماماً أو مستقاة من أساس واقعي»، مشيراً لكونه المعرض الأول الذي يحمل هذه النكهة السينمائية والأدبية، وإن لم يكن الأول في تناول «الشأن العراقي، بل والعربي بالمجمل؛ ذلك أن الحروب والاعتقالات باتت تنسحب على عموم البلاد العربية». يبدو الألوسي، الذي غطّى جوانب المأساة بقدر ما يستطيع: الاعتقالات والتعذيب والانتهاكات الجسدية وتفشّي الطائفية وانحدار الإنسانية لأدنى مستوياتها، مباشراً في طروحاته، التي لا تحتمل كثيراً من التأويل والتفسير، بل يظهر مستسلماً تماماً لثقل الوجع حين يقول «وراء كل سجين أم وأب تعبا عليه. ربّياه وتمنّيا أن يشاهدا أطفاله. لكل سجين ومعتقَل حكاية. حاولت أن أنقل بعض هذه الحكايات بقدر المستطاع، ومن منظور الأم والزوجة والأخ والطفلة». في الوقت ذاته، سيقف المتلقي طويلاً أمام اللوحات الكبيرة؛ ليجمع خيوط المشهد المختزَل. في أحد هذه المشاهد ثمة طفل ينظر من بعيد باكياً، فيما وحش يفترش وسط اللوحة، يقع أسفل منه ثاقب الجدران الكهربائي الذي استخدِم للتعذيب، وذراعيّ معتقلِ بجسد شبه عارٍ. أسماء عدة، اختارها الألوسي للوحاته، يملك كل منها أن يتحدث طويلاً وأن يترك للعربي، الذي قاسى لواعج الفراق عن بلاده وآلام الاحتلال والتنكيل بأبناء شعبه، متسعاً كبيراً ليكمل الحكاية، مثل «بواسطة القانون» و»صاحب» و»عائلة هدى والغراب الواشي» و»مذنب أم غير مذنب»، لتحضر المرأة، العراقية خصوصاً والعربية عموماً، ماجدة كما دوماً وعاضّة على الجرح ومكملة المسيرة رغم ثقل المأساة. تارة تكون الزوجة التي تهدّئ من روع طفلها الخائف على والده المعتقَل، وتارة المعتقَلة التي تعلم أن الزواج قد يكون مستحيلاً من فتاة مثلها واجهت الاعتداء الجسدي أثناء الاعتقال، وتارة الأم التي تراجع شريط ذكرياتها مع ابنها المُسالِم والغائب، وتارة الفتاة التي يوشى بها وبعائلتها لرفضها الابتزاز.